صورا ووشائج حية. إلى أننا نفقد من تاريخنا المجيد حقبة لا تقل عن خمسة آلاف سنة: من الفن والروح والعواطف والانفعالات. إلى أن بيننا وبين الآثار المصرية، والفنون المصرية، والحياة المصرية، والأحداث المصرية، هوة عميقة من الزمن واللغة، ومن الإهمال والنسيان.
وطالبت بأن تنقل إلى اللغة العربية كل قطعة أدبية كشف عنها في مصر العريقة، وإلى أن ترسم باللغة العربية صور الحياة المصرية بكل ما فيها من ظلال، وإلى أن تعقد بين الشيء وبين الآثار المصرية صلة وثيقة في كل أدوار نشأتهم؛ وإلى أن تنفث الحياة في تلك الآثار والتماثيل والتواريخ، بما يصاغ حولها من القصص والأساطير والملاحم والبيانات.
دعوت إلى أن تصبح حياة أحمس وتحتمس ورمسيس ونفرتيتي وأمثالهم في منال كل تلميذ صغير وكل طالب كبير، بل أن تعود أساطير حية للأطفال في المهود، بدل الشاطر حسن وجودر، وحسن البصري، والورد في الأكمام
قلت: إذا كانت مصر القديمة قد احتجبت عنا، لأننا أصبحنا نتحدث اليوم بلغة غير لغتها، فلننقلها هي إلى لغتنا الحديثة، لنضم إلى ثروتنا الفنية المحدودة بألف وخمسمائة عام (فترة الأدب العربي الذي ندرسه) ثروة أعظم منها وأعرق وأخصب في فترة أخرى طويلة تربو على الخمسة آلاف من الأعوام. فإنه من السفه أن نفرط في هذه الأعمار الطوال!
وكنت أعلم أن القصة والملحمة، هما خير الوسائل إلى تحقيق هذه الصلة التي نشدتها طويلا، وكتبت عنها طويلا. فكلتاهما تردان الحياة إلى ذلك الماضي، وتبعثانه في الضمائر من خلال الألفاظ، وتوقظان الوراثات الكامنة في دمائنا من هذا العهد المجيد، وتصلاننا بحياة أجدادنا على أرض هذا الوادي العريق. فتصبح روافد لنفوس كل جيل، حوافز لمشاعر كل فرد
ولا يعود الغابرون في مسارب الزمن جثثاً هامدة مسجاة في الأكفان مطمورة في الرمال. إنما يعودون ذواتاً حية، وشخوصاً قائمة، يشاركوننا هذه الحياة الحاضرة ويدبرون معنا أمرها، ويزودوننا بتجاربهم ونصائحهم، ويفيضون علينا مشاعرهم وعواطفهم - فيحس الفرد منا أنه فرع حديث لشجرة عريقة عميقة الجذور في الزمن شهدت فجر التاريخ، ووعت حديث الأجيال، وصمدت لأقسى عوامل الفناء.