للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مستمرة

ونصل إلى ضعف الثقافة العامة؛ وهذا الضعف كما رأينا شديد الصلة بالتعليم وبالثقافة المهنية على السواء. ونقصد بالثقافة العامة كافة أنواع المعرفة الأدبية والتاريخية والفلسفية التي لا تتصل بمهنة ولا تؤدي إلى استغلال مادي مباشر. وفي هذه الظاهرة ترى ببلادنا ما يفزع حتى لتحسب أننا في أرض لم تتسرب إليها بعد معاني الحضارة الحقيقية. ففي أوربا مثلا من المستحيل أن تلقى موظفا أو طبيبا أو مهندسا أو محاميا يجهل مؤلفات كبار المفكرين من الأدباء والفلاسفة والمؤرخين. وأما في مصر فمن المستحيل أن تلقى من بين من ذكرنا من يعرف تلك المؤلفات في غير النادر الذي لا حكم له. ومن أشنع ما يهولك أن ترى سادتنا لا يستحون من جهلهم، بل يظهرون من عدم الاكتراث، إن لم يكن الاحتقار الكاذب لتلك الثقافة الحرة، ما يحزن. ومن عجيب الأمر أنهم لا يحلمون بما سيجدون في تلك الثقافة من عون على مزاولة مهنهم مزاولة صحيحة، وهم يكادون يجهلون أنهم يعيشون في وسط اجتماعي وأنهم يعملون في صلب الحياة. وليس من شك في أن أحدهم لن يفهم وسطه الاجتماعي أو ينفذ إلى نفوس من يحيطون به أو يستطيع علاج مشاكل الحياة ما لم يتسع أفقه وتشحذ ملكاته الإنسانية بالثقافة الواسعة الحرة، ولكم من مرة لقينا بأوربا طبيبا أو محاميا يحدثك أن نجاح مهنته لا يتوقف على معلوماته الفنية فحسب، بل لابد له من أن ينهض على فهم صحيح لنفسية المريض أو الخصم أو القاضي، وسبيلهم إلى ذلك الفهم هو مواصلة القراءة في ميادين البحث الإنساني. ثم هب أن الثقافة العامة لن تجدي في الحياة العملية، أليست هي المنبع الأول لمتع الحياة، أليست هي دليل التحضر وارتفاع الإنسان عن مستوى الحيوان الأعجم؟ ألا فلنذكر قول المفكر الفرنسي العميق جورج ديهامل: (المكاتب العامة لا تكفي حاجات الناس، ولذا يمتلك كل منهم - مهما كان فقيراً ومهما ضعف استقراره - مكتبة صغيرة هي كنزه التي يعتز به. فكل إنسان يشعر بالحاجة إلى أن يجد في متناوله وتحت بصره وسائل حياته، وهو يقتنيها لا لأن الكتاب هو أخص زينات المنزل، ولا لأنه ينشر في الأماكن التي يحليها عبيراً أليفاً نافذاً من الروحية، بل لأنه يجد فيها ما يركن إليه في ساعة ضلال أو انحلال أو شك أو فراغ نفسي. ولتتصور ماذا تكون حياتك في بيت مريح، ولكنه خال من الكتب، إنك لن تلبث حينئذ أن تحس بالنفرة وضيق

<<  <  ج:
ص:  >  >>