من تلك الكتب. ومن الثابت أن الكتاب وسيلة للتفكير الأصيل قدر ما هو مستودع للمعرفة، ويا ويل قارئ سلبي لا يقف من الكتب إلا موقف المتلقي. ولقد اتفق لكاتب هذا المقال أن لاحظ غير مرة فروقا شاسعة بين المتعلم المصري والمتعلم الأوربي. فشبابنا المتعلمون أغلبهم لا نحس في حديثهم بمعارفهم إيمانا بما يقولون، أو على الأصح يرددون حتى ليتضح أن كل ما يذكرون ليس إلا رهائن في نفوسهم لا يعرفون سراً لاحتفاظهم بها، ولا يرون لها صلة بالحياة أو فائدة من إثرائها بله إخضاعها وتوجيهها. ولقد يكون أحدهم واسع الذاكرة ولكنك مع ذلك لا تعدم أن تحس بضيق إدراكه، حتى لكأنه حبيس فيما يردد مستعبد له؛ وكل تلك مظاهر لأمية أخطر من أمية العوام. والغربي على العكس من ذلك إيجابي في تفكيره، معارفه حية لأنها وقود لتفكيره، ومن هنا تتسع حيلته في الحياة وتشتد ثقته بنفسه، فلا يرهب مجازفة ولا يقعده عجز عن البدء في كبار الأمور يخطط سبلها ويوفر لها أسباب النجاح. عجيب أن يتخرج متعلمنا عالة على الحياة ويتخرج متعلمهم عنصراً فعالاً في خلق تلك الحياة
وذوو المهن منا قل من يتابع منهم سير المعرفة في مهنته، وذلك لأنهم لا يلبثون بمزاولة العمل أن ينزلوا إلى الآلية التي لا تستطيع تجديدا، حتى في فأصيل المهنة. والسر في ذلك، هو أنهم لا يقدرون - لكسل أو إعياء - قيمة المعرفة النظرية في مهنتهم قدرها الحق، ونحن الآن في عالم تعقدت فيه وسائل العمل والإنتاج، وأصبحت تستند إلى أسس نظرية لن تتقدم مهنة بدونها؛ ونحن لا نلقى التبعة كلها على متعلمينا فمنهم المرهق المهموم بتبعات الحياة المادية كالمدرس، ولكن إلى جانب هؤلاء كم ترى من موظفي الدواوين الذين طغى الكسل على حياتهم فتسكعوا كالدواب، وكم ترى من أطباء ومحامين لم يترك لهم جشع الحياة فراغا، يطالعون فيه جديدا أو يجيدون فهم قديم، تلقاهم فتدهش لآفاقهم المحصورة ومعارفهم الضامرة لا في ثقافتهم المهنية فحسب، بل وفي ثقافتهم الإنسانية العامة، تلك التي لابد أن تستند إليها معارفهم الفنية إذا أريد لها أن تنمي قدرتهم على تكييف النفوس والحكم على مواقف الحياة حكما صحيحا؛ وهذه أيضاً أمية لا تجد لها مثيلا في الغرب حيث يؤمن كل ذي مهنة أن توقفه عن القراءة مميت لمهنته مجفف لنفسه، وأنه لن يستطيع المنافسة في ميدان الحياة ما لم يتابع مكتشفات المهنة وثقافتها النظرية متابعة حارة