ثم يصيبه الإعياء والكلال من كثرة إرساله خواطر الثورة والحيرة والنفرة من الحياة والتشكيك فيها والسخط عليها ومضغ ألفاظ الألم والشؤم والكذب على الحياة، والإيغال في تخيل تلك الصورة الكئيبة التي يرددها دائماً على نفسه ويملأ بها حياته، فيعود إلى الصمت والأخذ عن الزمن الناطق الواعظ الخبير المصر على كلماته الأزلية:
قام للأيام في أذني ... واعظ من شأنه الخرسُ
أوجز الدهر بالمقال إلى أن ... جعل الصمت غاية الإيجاز
منطقاً ليس بالنثير ولا الشعر ولا في طرائق الرجاز ولقد تبلغ به في بعض الأحيان زلزلة الشك في صدق ما يقول من تلك الخطرات التي يظهر أن كثيرا منها كان وحي اللفظ أو القافية أو الخضوع لحب الأغراب، أن يشعر بصوت الزمن الصامت البليغ يرد عليه دعاويه ويفندها ويبكته
كادت سِنِيَّ إذا نطقت تقيم لي ... شخصاً يعارض بالعظات مُبَكِّتا
ويقول:
من بعث اللسان بغير ما ... أرضي فحقٌّ أن يُهان ويسكتا
دنياك لو حادثتك ناطقةً ... خاطبت منها بليغة لَسِنَهْ
تلك هي الصورة الأصيلة لأبي العلاء، لا يخطر ذكره بالبال، إلا وتتراءى لعارفيه أوضح ما تكون خطوطاً وقسمات. وهي صورة تتصل بمزاجه وشخصيته أكثر مما تتصل بفكره وفلسفته، وهي هالة اسمه وطابع شخصه. وله صور أخرى تتصل بآرائه وثقافته ومذهبه الكلامي