ثم راح دجالنا العصري يتحدث بكلام مؤثر بليغ، لا يعيه إلا قلة حظه من فصاحة العربية. كلام لم أجد له ترجمة موجزة فصيحة احسن من قول (دجال) البديع: حقيق علي إلا أقول غير الحق، ولا أشهد إلا بالصدق
قد جئتكم ببشارة من نبيكم، لكني لا أؤديها حتى يطهر الله هذا المسجد من كل نذل يجحد نبوته! وثبت القوم في أماكنهم وثبت معهم وأنا أغالب ابتسامة التعجب، مردداً قول ابن هشام في مثل هذا المقام: لقد ربطني بالقيود، وشدني بالحبال السود!
ووصف دجالنا ما كان من جهاده في عالم الطب؛ وكيف فتح بأبحاثه موصد أبوابه، ووقع على اثمن كنوزه وانفس أعلاقه، حتى لأرهفت أذني، لأن اسمعه يواصل حديثه فيقول ما قال سلفه: ولا من عليكم فما أعددتها إلا لضرسي، ولا حصلتها إلا لنفسي - والحق أنه عبر عن هذا المعنى بأفصح لهجة عامية أن صح أن توصف عامية بالفصاحة
وبعد أن أوضح خصائص دوائه - ورقم تسجيله بوازرة الصحة! - عرضه على الحاضرين وهو يقول ما ترجمته: فمن استوهبه مني وهبته، ومن رد على ثمن القرطاس أخذته. ثم قال ما هو أقرب شئ إلى قول الأول: ليشتر مني من لا يتقزز موقف العبيد، ولا يأنف من كلمة التوحيد
وأشهد لقد رأيت القوم يجهرون بكلمة التوحيد - غير أنفين - ثم تتبسط أيديهم نحوه بالدراهم الكثر، ثمناً للدواء الذي لا يشفي، وقد يسقم
شهدت كل ذلك ثم انطلقت وحدي في زحمة هذه السوق الناشطة، وأنا أتعجب للنفس الإنسانية كيف تتواتر صورها على مرآة الزمان متشابهة في مكرها وغفلتها، واحتيالها وبلاهتها. وما زلت إلى اليوم أعجب لهذا الدجال - وأمثاله كثيرون - من (فصاحته في وقاحته، وملاحته في استماحته. وربطه الناس بحيلته، وأخذه المال بوسيلته)
ولو أن القارئ الكريم استحضر في ذهنه بعد مطالعة هذه الكلمة، صورة أحد أولئك الدجالين، أو سعي إلى مشاهدته حيث يقوم على رأس شارع أو في صدر سوق - ثم أقبل يراجع مقامتي بديع الزمان: الرابعة السجستانية والعاشرة الأصفهانية. إذن لرأى في وقائعهما التي تخيلها البديع على أساس من الحقيقة، أعظم الشبه بوقائع دجاجلتنا ومُكْدينا