ولست أعلل ثورة دعبل وابن الأعرابي والآمدي ومن إليهم ممن قدحوا في شعر أبي تمام وعابوه بالغموض، والبعد عن عمود الشعر العربي إلا بطبيعة هذا المزاج المشرق المرح، الذي يستمد كيانه من طبيعة بيئة الشعوب العربية. . . ويتجلى ذلك المزاج في تحمس الآمدي للبحتري، في كتابه (الموازنة بين أبي تمام والبحتري)، وتفضيله شعر البحتري لسهولته ووضوحه وإشراقه، والتواء شعر أبي تمام وتعقده وغموضه، وثورته على طبيعة الفهم العربي الوادع المرح الذي يبغض الالتواء والتعقيد والغموض. وقد رزق الله أبا تمام كثيرين من النقاد العرب الذين هبوا ينافحون عنه ويدافعون عن طريقته، وفي مقدمتهم، أو على رأسهم، أبو بكر محمد بن يحيي الصولي، صاحب كتاب (أخبار أبي تمام) الذي برهن بدفاعه المجيد عن شاعرنا الخالد على أن فينا أمزجة تشبه هذه الأمزجة اليونانية والإنجليزية المولعة بالغموض في الشعر، التي تؤثر الالتواء والتعقيد فالحمد لله، وشكراً لأبي بكر الصولي!
وأكثر المؤرخين على أن أبا تمام ولد في جاسم إحدى قرى دمشق، وأقلهم - وفيهم صاحب الأغاني - على أنه ولد في إحدى قرى منبج.
وأكثر المؤرخين على أنه عربي من قبيلة طيء، وأكثر هو من الفخر بذلك في شعره. . ثم أقلهم على أنه ليس من طيء في الذيل ولا الذؤابة، بل أنه ابن رجل يوناني نصراني أسلم، وكان يدعى (تدوس) أو تيودوس فعدل به أبو تمام إلى أوس، فصار يدعى أبا تمام حبيب بن أوس الطائي، فراراً عن هذه اليونانية التي كانت تكون له شرفاً لو أنها صحيحة، لا عاراً كما أراد أعداؤه أن ينالوا منه، ويقدحوا في نسبه، لأن ذلك يزكي مذهبه في الشعر ويجعل له أصولا وراثية من دماء هؤلاء اليونانيين الذين غضوا من شعر يوريبيدز في عصره لسهولته ووضوحه ويسره
وسافر أبو تمام إلى مصر بعد أن أيفع بالشام، وكان أبوه خماراً، وكان هو حائكا، كما جاء في تاريخه المضطرب. . . وأكبر الظن أنه لذلك لم ينتفع في الشام بعلم ولا أدب، وأن السنوات الخمس التي عاشها في مصر كانت فترة التعليم الجامعي الذي انتفع به أبو تمام، وشدا منه تلك الذخيرة من دروس الجامع الكبير، أو مسجد عمرو بالفسطاط مستعيناً عليها بسقاية الماء. . . ثم شد رحله إلى المشرق بعد أن تمكن من نظم الشعر في مصر تمكناً