جعله سيد شعراء عصره عشرين عاماً كاملة بإجماع النقاد. فإذا عرفنا أن أبا تمام لم يتجاوز الأربعين، أو تجاوزها قليلاً ثم مات. . . عرفنا أنه ثقف الشعر في مصر. وحصل جميع علومه في مصر. وأن مصر قد صنعت الجزء الأكبر من أدب أبي تمام وعلمه وشعره. وأنه حينما سافر إلى العراق سافر إليه وقد نضج عقله وقلبه بكل ما كانا يفيضان به من علم وشعر. فإن يكن قد انتفع في بغداد والبصرة والكوفة بعلم أو أدب. فليس يعدو ذلك اطلاع الأديب الذي اشتد عوده والذي لا غنى لثقافته عن مواصلة القراءة. . . والمقارنة بين مدارس الفكر المختلفة. يتقلب من اجلها بين البلاد:
خليفة الخِضْر من يربعْ على وطن ... في بلدة، فظهور العِيس أوطاني
وما أظن النوى ترضى بما صنعت ... حتى تُشافِه بي أقصى خراسان
خلّفت بالأفق الغربي لي سكنا ... قد كان عيشي به حُلواً بحلوان
فإخوان أبي تمام الذين تركهم وراءه في مصر هم أخدان الصبا وأصدقاء الشباب وشركاؤه في أيام الدرس والتحصيل. . . وطالما تذكرهم أبو تمام بعد ذلك، وسجل ذكره لهم في شعره:
ولله ما أسعد تلك العصابة من الأصدقاء الأوداء الذين تتجاوز آدابهم، وتتنافس ثقافاتهم، وتسفر بينهم قصائد الشعر ورسائل الأدب. . . وقد ثبت أن أبا تمام قد نظم كثيراً من غرر شعره وهو في مصر، وأنه عندما ذهب إلى العراق وأخذ في إنشاد أشعاره، وقف الناس منها موقف المشدوه الذي يرى فيها شيئاً جديداً لم تتعوده أذنه، ولم يعرفه فيما عرف من أشعار العرب فكان الذي يستطيع فهمها يستحسنها، ويشهد لها بالجدة والجمال، أما الذين كانت تستعصي عليهم، وتضيق بها أخيلتهم، فكانوا يشتدون في إنكارها كما يشتدون في