خصومة نظمها، وإن كان بعض الطاعنين على أبي تمام لا يملك أحياناً إلا أن يصفق له. . . وقد كان أبو بكر الصولي لبقاً في سوق أمثلة ذلك. ولهذا فنحن نرى أن أبا تمام قد ذهب إلى العراق حينما ذهب إليه، بفن جديد أنشأه في مصر، وضع فيها أصوله، وقعد قواعده، ووشاه بذوقه المتفرد المفتن الجبار. . . وحسبنا أن نقرأ قصائده الأولى التي أنشدها في العراق لنعلم كيف فجأ الناس بها وبما تضمنته من غرائب هذا الفن الجديد العجيب. . . وليس يصح في الأذهان أن أبا تمام ابتدع ذلك كله بالعراق فجأة، لأن قصائده الأولى هذه تشبه قصائده الأخيرة في كل مشخصاتها ومقوماتها، وربما كان بعض المتقدم منها أجود من بعض المتأخر
ولعل القارئ يسأل: ما بالنا نبدأ في ذلك ونعيد، وماذا نبتغي ما إثبات فضل مصر على أبي تمام؟ والجواب على هذا لا يخلو من أن نشغب على أستاذنا الدكتور طه حسين الذي أنكر هذا الفضل على مصر، وجعل العراق وحده هو الوطن العقلي لأبي تمام، وذلك في محاضرته التي ألقاها عن أبي تمام وضمنها كتابه الفريد المفيد (من أحاديث الشعر والنثر) ونعود فنقول إن السنين العشرين التي تفرد فيها أبو تمام بجوائز الملوك والأمراء، والتي كان فيها جميعاً فارس حلبة الشعر، قد بدأت حينما بدأ أبو تمام حياته في العراق، وهو إذ ذاك في حدود العشرين من عمره أو فيما يقاربها، فأين إذاً نما غراسه الأول إن لم يكن قد نما واشتد وآتى أكله في مصر؟
ونحن لا ننكر أن أساتذة أبي العلاء في الشعر العربي لم يكونوا من المصريين، لأن أحدهما هو أبو نؤاس، والثاني هو مسلم ابن الوليد، وكان أبو تمام يعجب بهما ويسطو على آثارهما، ينتهب منها ما يشاء. فيغمض فيه، ويزيد عليه، ثم يغرب ويغلو في الأغراب، حتى تكون البضاعة له خاصة آخر الأمر: وفي ذلك يقول الصولي في رسالته إلى مزاحم بن فاتك:
(وليس أحد من الشعراء - أعزك الله - يعمل المعاني ويخترعها ويتكئ على نفسه فيها أكثر من أبي تمام؛ ومتى أخذ معنى زاد عليه، ووشحه ببديعه، وتمم معناه، فكان أحق به. . .)