الثلاث من غير تخلل رجعة بمنزلة طلقة واحدة، ولم يهدأوا حتى عقد له مجلس في رجب سنة ٧٢٠هـ، فحكم عليه بالحبس في قلعة دمشق، وقد مكث فيها إلى أن أخرج منها في ١٠ من المحرم سنة ٧٢١هـ
ثم ثاروا عليه في شعبان سنة ٧٢٢هـ، لأنه أفتى بمنع زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، فأعيد اعتقاله بتلك القلعة، ولم يزل بها إلى أن مات في ٢٠ من شهر ذي القعدة سنة ٧٣٨هـ، وكان يوماً مشهوداً، حتى ضرب المثل بكثرة من حضر جنازته، وأقل ما قيل في عددهم خمسون ألفاً
وهذه القضايا الخطيرة تمثل لنا أروع معركة علمية قامت في الإسلام بعد إقفال باب الاجتهاد، وتبين لنا كيف أقفل هذا الباب بالقهر والعسف، وأنه لم يقفل بالدليل والإقناع، ولا لمصلحة عامة أو خاصة اقتضت حظره على العلماء
وكم كان ابن تيمية موفقاً في محاولته فتح باب الاجتهاد في الفروع، وإيثاره فيها الدليل من الكتاب والسنة على أقوال الأئمة المعروفين، وكم كان موفقاً أيضاً في حملته على أولئك المتصوفة الذين حشوا أدمغة المسلمين كثيراً من الجهالات والخرافات، ومما أنشد له في ذلك على ألسنة فقرائهم:
والله ما فقرنا اختيارُ ... وإنما فقرنا اضطرارُ
جماعة كلنا كسالى ... وأكلنا ما له عيار
تسمع منا إذا اجتمعنا ... حقيقة كلها فشار
ولكنه لم يكن موفقاً في حجره على العقول في الأصول، والحكم عليها بالوقوف عند ظواهر النصوص، وموقفه في هذا غير منسجم مع موقفه الأول، وقد وقع بهذا فيما وقع فيه خصومه من الحجر على حرية الرأي، وحصر الدين في حدود ضيقة يشتد فيها الحرج على العقول، ولا تتسع للاجتهاد الذي لا شطط فيه ولا انحراف، ولقد كان خصومه منطقيين في جمودهم على كل ما ألفوه، وتحريمهم في الفروع مخالفة الأئمة الأربعة، وفي الأصول مخالفة الإمام الأشعري، ولم يكن هو منطقياً في تسويفه مخالفة تلك الأئمة بالاجتهاد في الأصول، فهو بهذا قد فر من جمود إلى جمود
واضطرابه في ذلك هو الذي لم يجعل منه المصلح السمح الذي يعلو على ما كان يقع فيه