وكان قاضي الحنفية شمس الدين بن الجريري، وهو عالم شجاع لا ترهبه قوة السلطان، ولا يخشى في الحق لومة لائم، فانتصر لابن تيمية على خصومه، وكتب محضراً أثنى عليه فيه بالعلم والفهم، وذكر أن الناس لم يروا مثله منذ ثلاثمائة سنة، وكان جزاؤه على هذه الجرأة العزل من القضاء
وقد سعى الأمير سلار في تخليص ابن تيمية من الحبس، وأحضر القاضي الشافعي والمالكي والحنفي وكلمهم في إخراجه، فأجابوه إلى ذلك بشرط أن يرجع عما أخذ عليه في الدعوى، وقد أرسلوا إليه مرة بعد مرة فامتنع من الحضور إليهم، وآثر الحبس في الجب على أن يرجع عن عقيدته، ولم يزل في ذلك الجب إلى أن شفع له أمير آل فضل، فأخرج من الحبس في الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول، وأحضر إلى القلعة وعقد لمباحثته مجلس من الفقهاء، ثم كتب محضر بأنه قال: أنا أشعري
ولكنه لم يكد يخلص من أولئك الفقهاء حتى قامت عليه قيامة المتصوفة، وكان زعيمهم في الثورة عليه ابن عطاء صاحب الحكم المشهورة، فذهبوا إلى القلعة في العشر الوسطى من شوال وادعوا على ابن تيمية أنه يطعن في شيوخ الطريقة، وأنه أنكر الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بتسييره إلى الشام على خيل البريد، وكان القاضي المالكي قد اشتغل عنه بمرض أشرف منه على الموت، ولكنه لم يكد يعلم بمسيره إلى الشام حتى أرسل إلى النائب فرده من نابلس، وأقيمت عليه دعوى عند القاضي ابن جماعة، وشهد عليه شرف الدين ابن الصابوني، فحكم عليه ثانياً بالسجن في حارة الديلمة، وقد نقل إلى القاضي أن جماعة من أتباعه يترددون عليه، وأنه يكلمهم فيما أنكر عليه مما تقدم، فأمر بنقله إلى الإسكندرية، وقد حبس هناك في برج شرقي، وكان موضعه فسيحاً، فقصده أصحابه هناك، وصاروا يدخلون إليه للقراءة عليه، وبحث ما يحتاجون إليه من المسائل، ولم يزل محبوساً إلى أن عاد الناصر إلى السلطنة، فشفع فيه عنده، فقبل الشفاعة فيه وأمر بإحضاره من الحبس، وكان حضوره إليه في (١٨ من شوال سنة ٧٠٩) فأكرمه وجمع القضاة وأصلح بينه وبين القاضي المالكي، وقد اشترط هذا القاضي في صلحه ألا يعود إلى ما أخذ عليه من الأقوال، فقال له الناصر: قد تاب
وقد ثار خصومه عليه بعد ذلك في شهر رمضان سنة ٧١٩هـ، لأنه أفتى بأن الطلاق