أنا دونا مصنفاً يجمع بين دفتيه تاريخ حياة الأدباء وذكر آثارهم ومخلفاتهم متنافرة لا تؤلف بين ابعاضها فكرة، ولا تربط أجزاءها صلة، كان تأريخنا لأدب اللغة ناقصاً قليل الفائدة، لأن الأدب برمته يرتقي وينحط من عصر إلى عصر. وعلى مؤرخ الآداب أن يدرس أسباب الرقي والانحطاط، وتأثر الأدباء بها أو تأثيرهم فيها، وأن يدرس صلاتهم بأسلافهم وأخلاقهم، فان من الكتاب من يرتفع إلى درجة السمو والكمال، فيطبع عصره بطابع خاص، ويظهر من بعده أتباع له يتأثرون آراءه وأساليبه، معترفين بفضله حيناً ومنكرين أحياناً. والكتاب الذي يلقي رواجاً عند جمهور الناس لا يلبث أن يظهر له أشباه، وأن يتكرر ما فيه مرات ومرات: هكذا تنشأ المدارس في الأدب، وتظهر الحركات التجديدة التي تحيا حيناً من الدهر، ثم تموت لتخلي السبيل إلى ظهور مدرسة أخرى أو حركة جديدة حينما تتغير الأذواق وتتبدل المذاهب. فإذا قلنا - مثلا - مدرسة (بوب) في الأدب الإنجليزي، انصب قولنا على جميع الشعراء الذين تبعوه في الأسلوب الذي أذاعه بين الناس ورفعه إلى مرتبة الكمال. وإذا ذكرت (الحركة الكلاسيكية) في الشعر، حملت إلى أذهاننا عصر بوب الذي تميز بالرجوع إلى تراث الأقدمين وورود مناهجهم الأدبية. وإذا قلنا الحركة الرومانتيكية في النثر الخيالي، قصدنا ذلك المنوال الذي أنشأه (سكت) في كتابه القصص التاريخية، ونسج عليه أتباعه ومقلدوه. وقد ظهرت المدارس والمذاهب كذلك في الأدب العربي، فكان في العصر العباسي مدرسة وعلى رأسها الأصمعي، لا تحب إلا الشعر الجاهلي، ولا تحب من المحدثين إلا من قلد القدماء. وقد أدخل المتنبي والمعري الفلسفة في الشعر، فأصبحت مذهباً من المذاهب له أشياعه وأنصاره.
هذه المدارس والحركات تلعب دوراً هاماً في تطور الأدب، ولها من الأهمية في دراسة تاريخ الآداب ما لا يقل شأناً عن دراسة شخصيات الكتاب أنفسهم. فان الأديب مهما كان مجدداً مبتكراً فهو ما يزال إلى حد بعيد وليداً لبعض الكتاب السابقين، يستلهمهم الرأي ويستوحيهم الأسلوب. وقد ذكرنا مثلا أن (بوب) مجدد في الشعر الإنجليزي، له أسلوب خاص ومدرس خاصة، ولكنا إذا أمعنا في البحث عرفنا أن هذا الأسلوب لم يكن من خلقه وإنشائه، وإنما بلغ الذروة والكمال على يديه بعد ما سار شوطاً بعيدا في التقدم والترقي، ووصل إلى درجة تكاد تدانيه دقة وروعة في كتابات الشاعر دريدن. وقد تعلم سكت في