(أوليس) إذن عصارة مركزة لتلك الآداب اليونانية التي تشربها المؤلف، وأحسب أنه لو لم يشربها لما استمتعنا بقراءة (أوليس). فنحن إذ نقرأ أوليس نحس لذة لا تزول لأن من صور حياتها عاش أعواما في ظل (هوميروس) يحسو أعذب الرحيق من ملحمتيه، وماشى تطور اليونان حتى عصر (سوفوكليس). ولأنه زار تلك المواطن التي أوردها هوميروس في ملحمتيه: شاهد بحار اليونان التي خرج فيها (أوليس) على رأس جنده، وتطلع إلى قمة (الأولمب) مقر الآلهة، وشاهد تلك المخلفات الرهيبة الساحرة، التي لا تزال تفوح منها حتى اليوم رائحة هذه المعارك الدامية بين أثينا وإسبرطة، وتنبعث منها صور الماضي السحيق وأطياف أبطال اليونان وشعرائهم وفلاسفتهم
وهكذا فالمؤلف إذ يحدثنا عن (جفروش) أو (العبيط) أو (إبراهيم الكاتب) لا يحدثنا عن شخصيات قرأ عنها في بطون الكتب بل جاء حديثه نتاج تمثله لهذه النماذج وتشربه روح خالقها. فحديثه إنما هو بعض نفسه، ومن أجل هذا استطاع أن ينقل إلى قرائه في يسر، ما أحس من مشاعر، وأن يضمن في نفوسهم ما أحدثته هذه النماذج في نفسه من أثر عميق لا يمحى
كل ذلك في أسلوب لا أجد في التعبير عن موسيقاه أحلى من قول السيدة ملك في مقدمة الكتاب:(إنها ليست موسيقى رقص محدودة متقابلة، ولكنها فيض نفس، نفس حارة غنية، موسيقى سيالة تعلو وتهبط، وتتكسر وتتراخى وتتدافع حسب نبضات الإحساس أو وثبات الفكر).
وبعد: فهذا أيها القارئ كتاب النماذج من حيث هو كتاب أدب. ولكن هل هو كتاب أدب فحسب؟ أو أراد به مؤلفه أن يكون صياغة جديدة لبعض القصص العالمي، وعرضاً تحليلياً لأبطال هذا القصص؟ اللهم إن كان هذا لجاء الكتاب دراسة فحسب ولما كان فيه خلق أو طرافة. ولكن ما يعطى الكتاب قيمته التي سيخلد بها هو انطواؤه على تيارات خفية؛ من اليسير على القارئ اللبيب تأن يدركها، تيارات نفسية هي مزيج من السخط على ما في المجتمع من شرور، وتطلع قلق لتحطيم ما فيه من أصنام، وتدمير ما يحوي من نظم عقيمة بالية. هذه التيارات اعتملت في نفس المؤلف وأقلقت روحه مذ كان شاباً غض الشباب، فلم يجد سبيلاً للإفصاح عن هذه الثورة الكامنة والتعبير عن أفكاره، ومثله السياسية