الشجاعة والإقدام إلى طور الحكمة وما يسوده من مكر ودهاء؛ ثم إلى طور الانحلال الخلقي الذي يجعله المؤلف رهينا بظهور الفلسفة وما يتبعها من سفسطة وتمرد للفكر. ويقول المؤلف في ذلك (ص١١٤):
(لا. إن أوليس لم يعد (في الأوديسا) من الصلابة بحيث كان، وقد أخذ التفكير يتغلب في نفسه على خشونة البداوة. أخذ الدهاء يسيطر على الشجاعة، أخذت الرقة تنفذ إلى صلابة قلبه. أخذ يتحضر، وهذا أمر لا عيب فيه، ولكن طريق الحضارة طريق زلق سوف تراه في الحديث آلاتي (فيلوكتيت) ينتهي برجلنا كما انتهى بالشعب اليوناني كله إلى بوادر انحلال خلقي، ستكون إحدى مظاهره ذلك الخبث القبيح الذي يصد عنه أوليس (فيلوكتيت) مسرحية سوفوكليس الروائي العظيم). ثم يقول عن أوليس في فيلوكتيت (ص١١٤):
(تركنا أوليس وقد أصبح في الأوديسا أقدر على الدهاء مما عهدناه من قبل. وهانحن نلقاه اليوم في (فيلوكتيت) مسرحية (سوفوكليس) الشاعر العظيم فإذا بنا في القرن الخامس قبل الميلاد وإذا بنا في أثينا حيث ظهر الفلاسفة، وكثر الخطباء، وتعدد السوفسطائيون؛ فأخذت بوادر الانحلال تدب في الأخلاق. وتلك ظاهرة لها أشباهها في تاريخ كل الشعوب، فالتفكير ملكة خبيثة كثيراً ما تنتهي بالإنسان إلى تبرير كل الوسائل والتماس كافة السبل لما تسعى إليه من أهداف، فيسكت صوت الضمير، وتختفي من النفس معاني النبل التي تتوافر عادة في البداوة)
وهو يأبى أن يدع (أوليس) بعد هذه المسرحيات اليونانية الثلاث فتلمسه في الآداب الحديثة أيام نهضت أوربا من رقادها في عصر النهضة، تفتش عن تراث اليونان الخالد فتبعثه من جديد. وكان (أوليس) - وقد اجتمعت فيه عوامل الخلود - ممن استوقف الناظرين فظهر في كثير من آداب عصر البعث العلمي. فتتبعه مؤلفنا عند (دانتي) الإيطالي وعند الشاعر الفرنسي (دي بالي وأخيرا ينتهي بنا عند أوليس الكاتب الإنكليزي المعاصر (جميس جويس)
هذا هو الجهد الذي كان على المؤلف أن يحتمله كي يخرج لنا أوليس نموذجاً بشرياً في صفحات قلائل، يقرؤها آلاف البشر في يسر دون أن ينعموا النظر فيما تخفي هذه السطور من دراسة دقيقة متصلة