وقد أشرنا إلى خصومة ابن الأعرابي، تلميذ المفضل الضبي والكسائي، لأبي تمام، وقد وعت بطون كتب النقد أعاجيب شتى من أنباء تلك الخصومة تعد من النوادر في أخبار الخصومات الأدبية: فمن ذلك ما ذكره الطوسي قال: وجه بي أبي إلى ابن الأعرابي لأقرأ عليه أشعاراً، وكنت معجباً بأبي تمام. فقرأت عليه من أشعار هذيل، ثم قرأت أرجوزة أبي تمام على أنها لبعض شعراء هذيل:
وعاذل عذلته في عذلهِ ... فظن أني جاهل من جهلهِ
حتى أتمتتها، فقال: اكتب لي هذه، فكتبتها له، ثم قلت: أحسنة هي؟ قال: ما سمعت بأحسن منها! قلت أنها لأبي تمام! فقال: خرق خرق! أي مزق، مزق!
ومع ذاك، فقد كان ابن الأعرابي، هذا الحجة الفاضل، يحفظ كثيراً من شعر خصمه أبي تمام، ويتمثل به، وهو لا يدري أنه له؟
وعلى هذا النحو كان الناس في عبقري الشعر العربي. وعلى هذا النحو، لا يزال الناس في أبي تمام!
والحق الذي لا يماري فيه إلا مكابر، أن أبا تمام كان نادرة زمانه في الشعر العربي، بل أنه لا يزال نادرة هذا الشعر حتى اليوم، فليس في شعراء العربية من استطاع أن يصور كما صور أبو تمام. وليس فيهم من استطاع تلوين صوره كما لونها هذا الشاعر المفتن المبدع، وذلك لا يعارض ما أثبته عليه خصومه من سطوه الكثير على معاني الشعراء، ذلك السطو الذي كان يفتن أبو تمام في إخفاء معالمه وستر مصادره بهذا البهرج الكثير من الصنعة البيانية، وتلك المركبات البديعية التي كانت تأتي زاهرة باهرة أحياناً، وملتوية معقدة لا تكاد تفهم أحياناً أُخرى: وما ظنك بهذا الالتواء الذي يشتد، حتى لا يفهمه عبد الله التوزي - أو التوجي، تلميذ أبي عبيدة والأصمعي، الذب قال فيه المبرد: ما رأيت أحداً أعلم بالشعر من أبي محمد التوزي، كان أعلم من الرياشي والمازني! فقد سئل هذا الرجل عن شعر أبي تمام فقال: فيه ما أستحسنه، وفيه ما لا أعرفه ولم أسمع بمثله، فإما أن يكون هذا الرجل أشعر الناس جميعاً، وأما أن يكون الناس جميعاً أشعر منه! (الصولي ص ٢٤٥) والعجيب أن يعترف بذلك الصولي نفسه وهو (محامي) أبي تمام وقد ذكرنا كلمته التي أقر فيها بأنه: