ليس أحد من الشعراء يعمل المعاني ويخترعها ويتكئ على نفسه فيها أكثر من أبي تمام وأنه متى أخذ المعنى زاد عليه، ووشحه ببديعه، وتمم معناه، فكان أحق به! وقد ذكر الآمدي أن أبا تمام كان يتعالم في شعره ويتفلسف (الموازنة ص ٢ - ١١) ويصف ممدوحيه بالرمز إلى عقائد بعض الفرق الإسلامية، فيزيد ذلك في غموض شعره ويضاعفه، ويتعسر فهمه على غير من يعرف تلك العقائد، ويلم بهذه الأسرار: فقوله من مدحة في أبي سعيد:
فلو صح قول الجعفرية في الذي ... تنص من الإلهام خلناك ملهما
لا يفهم حتى نعرف أن الجعفرية فرقة من الشيعة تنتسب إلى جعفر بن محمد ويدعون له الإلهام، كما يحدثنا بذلك التبريزي في شرحه لديوان أبي تمام، وكما نعرف ذلك من كتب الملل والنحل مثلاً، ثم قل مثل ذلك فيما يصادفك من أبياته التي تنبئ بإلمامه بالمذاهب والعلوم والفلك والنحو والمنطق مما كان يجيد الرمز به والإشارة إليه، متعمداً مرة، جارياً على سليقته أحياناً. وكله مما لا نرى أنه يدخل في باب الشعر، بل هو، كما ذكرنا في كلامنا عن ثقافة أبي العلاء تعالم من أبي تمام على أهل زمانه المتعالين. أما ثقافة أبي تمام الحقة، فتنحصر في سعة إلمامه بشعر من تقدمه من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين والأمويين والعباسيين، ودقة فهمه لمعانيهم، وحسن اطلاعه على مذاهبهم. وقد اشتغل فعلاً بالتصنيف الشعري، يؤيد ذلك ما ذكره البديعي في كتابه (هبة الأيام، فيما يتعلق بأبي تمام) من أن له (كتاب الحماسة) الذي دل على غزارة فضله وإتقان معرفته، وحسن اختياره، وكتاب فحول الشعراء جاهليين ومخضرمين وإسلاميين، وكتاب الاختيار من الشعراء. وكان له من المحفوظات ما لا يلحقه فيه غيره، حتى قيل أنه كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير المقاطيع والقصائد!). وذكر البديعي كذلك سبب تصنيف أبي تمام ديوان الحماسة، فقال (ص ١٣٨): (فانه لما وصل إلى همذان (في رحلته شرقاً)، وكان في زمن الشتاء، والبرد في تلك النواحي شديد، خارج عن حد الوصف، قطع عليه كثرة الثلج طريق مقصده، فأقام بهمذان ينتظر زوال الثلج، وكان نزوله عند رجل عنده خزانة كتب فيها دواوين العرب وغيرها، فتفرغ لها وطالعها واختار منها كتاب الحماسة)). وفي مؤلفات أبي تمام يقول الآمدي:(ص٢٣): (كان أبو تمام مشتهراً بالشعر، مشغوفا به، مشغولا مدة عمره (بتخميره!) ودراسته، وله كتب اختيارات فيه مشهورة معروفة، فمنها