وبلوت من الدنيا ما هو أقسى على النفس من أهوال الفتن والحروب: بلوت منها تقلب القلوب وغدر الصحاب وخيبة الظنون
بلوت هذا كله فما وهنت ولا شكوت ولا أجريته على لسانك إلا كسمر السامر وفكاهة المتحدث، وعبرة المعتبر بأحوال الدنيا وخلائق الناس
أنت يا صديقي رجل ذو عزيمة
ولكنك وا أسفاه رجل ذو قلب وذو ضمير. وكثيراً ما يكون القلب وحده مدداً للعزيمة، والضمير وحده ينبوعاً للصبر والأباء
وهاأنت يا صديقي تفجع في القلب فما جدوى العزيمة وما غناء الصبر وما حيلة الأباء؟
أكنت نسيت ذلك كله ساعة أبلغتني الخبر المشؤوم فأهبت منك بعزم الرجال؟
إن كنت قد نسيته في تلك الساعة فما كان اخلقني ألا أنساه، لأنني لمست شواهده قبيل ذلك بأيام، وشاءت الأقدار أن أسبقك إلى مصاب يهد القوي ويفت في الأعضاد، وشاءت الأقدار أن تكون أنت في لواعج الخوف من وقوع مصابك الأليم ولا علم لي بشيء من ذاك، لأنك كنت تواسيني مواساة الصديق والطبيب، وتعوذ من نفسك بعزم أولي العزم، وتكتم عني ما كنت فيه
فلما برح بي الألم ولجأت إليك أستمد منك عوناً لهذه البنية ينصرها على البرحاء علمت ما يشغلك، وعلمت مبلغ صبرك على مغالبة الخوف والفزع والبلاء
علمت أنك هجرت بيتك ولزمت حجرة المستشفى منذ أيام، وتركت محرابك الذي لا تتركه لتقيم إلى جوار تلك العزيزة التي تودع الحياة: تلك العزيزة التي كان منها مدد قلبك ومدد عزمك. . . تلك الزوجة الرؤم بل ذلك الملك الكريم الذي سكنت إليه كما تسكن السفينة إلى الميناء الأمين بعد هوج البحار
علمت أنك تأوي إلى المستشفى منذ أيام ولم أعلم ما حقيقة الداء وما مبلغ الرجاء في الشفاء، وكان أغلب الظن عندي أنها عقدة من عقد الجراحة يحلها مبضع الجراح. فلما ذهبت إليك قويت عندي هذا الظن وتمالكت وتجلدت وألححت في السؤال عني لتطلق لساني وتنسيني ما أنت فيه