وهاأنت يا صديقي تفجع في القلب فما جدوى العزيمة وما غناء الصبر وما حيلة الآباء؟
حين دق الجرس في هدأة الليل، وسمعت صوتك يجهش بالبكاء، ويلقي إلي بتلك الكلمة القصيرة في حروفها، الطويلة في عقابيلها - لم يخطر على لساني إلا الصبر أثوب بك إليه، ولولا ذهول المفاجأة لخطر لي أن الصبر قد أصيب في المقتل المنيع، لأنه قد أصيب في القلب الذي يعتصم به الرجل الصبور، وكثيراً ما يتراجع الرجال بعزائمهم إلى قلوبهم، فإذا أصيب القلب - فإلى أين يتراجعون؟
ذاك هو اللغم في الميناء، وأنه لأهول من الإعصار في هوج البحار
واليوم وقد دار الحول دورته الثالثة لا أحاول العزاء، لأن العزاء تخفيف من الأسى والأسى على الأعزاء عزيز مثلهم، لا يروقنا أن نمسه بتخفيف
إنما أحاول ترويض الحزن بشيء من التذكير
ولا أذكرك إلا بمصائب الحياة إلى جانب مصائب الموت. فوالله يا صديقي أن الحياة لأقسى من الموت في أكثر من مصاب، وأن قسوة الموت لرحمة في بعض الأحايين عند قسوة الحياة، فليست أوجع السهام مخبوءة لنا في جوف التراب، بل هي مخبوءة لنا في رحب الهواء
إن فقدان الموت يورثنا الألم ولكنه الألم الذي لا نهون به ولا نخجل من قبوله، وقد نشرف أمام أنفسنا بالصبر عليه والحنين إليه
وكم من فقدان في الحياة يورثنا الألم الذي يخجل ويضيم، لأنه ألم لا يجمل بنا أن نحسه ولا يشرفنا الصبر عليه والحنين إليه، وإنما يشرفنا أن نقتلعه من جذوره كلما استطعنا، وقد لا نستطيع
كل مفقود بالموت يستحق الحزن عليه، وكل مفقود بالحياة فالحزن عليه كثير
ولأكرم لنا وللأعزاء أن نفقدهم موتى ولا نفقدهم أحياء، وما يرضينا أن نفقدهم على حال من الحالين لو كان لنا اختيار بين الأمرين، ولكننا مسيرون يا صديقي للقضاء، ولا حيلة يا صديقي للموتى ولا الأحياء، مع حكم القضاء