حرصهم على ما ألفوه. . . فقد رأوهم يقلقون عاداتهم ويزعزعون أساليب حياتهم الموروثة، فيكرهونهم على نوع من الحياة لم يألفوه، في مقاومة الأمراض، وتنظيف الشوارع، وما إلى ذلك، فثاروا بهم، وهذه أيضاً قسوة في الحكم، لأن الكاتب لم يشأ أن ينسب إليهم ما نستشعره نحن اليوم من عاطفة وطنية، أو تعلق بحرية وذود عن استقلال. وهذا منهج قد تمليه الروح العلمية التي تلزم المؤرخ بأن يحكم بعقلية من يكتب عنهم، لا بعقليته هو، ولكنني مع ذلك أخشى أن يكون مؤرخنا قد أسرف في القسوة وأسائل نفسي: هل من الحكمة، بل هل من العدل، أن نحكم على الشعب المصري أحكاماً كهذه؟ ونحن في مجال التاريخ نحرص على الحقيقة أكبر الحرص، ولكن ما هي الحقيقة التاريخية؟ وفي كل تاريخ نوعان من الحقائق: وقائع، وتفسير لتلك الوقائع؛ فأما الأولى، فمن الواجب الوصول إليها بجمع الوثائق ونقدها، وعلى العكس من ذلك تفسير تلك الوقائع، فهذا ما لا تحمله الوثائق، وإنما يصل إليه المؤرخ باستنتاجه الخاص، وهنا يكون تفاوت المؤرخين؛ وتدخل شخصياتهم بحيث نستطيع أن نناقش أحكامهم دون أن يكون في مناقشاتنا خروج على المنهج العلمي السليم
وباستطاعتنا أن نناقش المؤرخ السابق بآراء الكاتب الآخر الذي لاقيناه يتحدث عن زعيم مصري تركزت فيه يوماً نزعات شعبنا، وهو السيد عمر مكرم. فمؤرخنا شديد الحماسة لتطلع هذا الشعب إلى الحرية منذ أوائل القرن الثامن عشر، وهو يرى أن ظهور السيد عمر مكرم كان استمراراً وخاتمة لمحاولات عديدة قام بها زعماء الشعب المصري الصميم للمساهمة في الحكم، وحمل الباب العالي على تعيين من يرتضونه والياً على مصر. وعنده أن سنة ١٨٠٧ هي التي وضعت حداً لتلك النزعة الشعبية، وذلك لأن محمد علي عاهل مصر الأكبر، وإن كان قد وصل إلى الحكم بموجة شعبية قوية قادها السيد عمر مكرم، إلا أن ضرورة الحكم، وحرص هذا المصلح الكبير على أن يحث الخطى في النهوض بالبلاد ورفع مستوى الحضارة بها، قد اضطراه لسوء الحظ إلى أن يرفض عرض السيد عمر مكرم في تلك السنة مساهمته هو والشعب المصري في عونه على رد الإنجليز عن رشيد. والرأي عند مؤرخنا أن هذا الرفض قد أثر في تربية الشعب السياسية، وباعد بينه وبين الاهتمام بأمور الدولة والمشاركة فيها نحواً من خمسة وسبعين عاماً، أي من سنة ١٨٠٧