إلى ثورة عرابي، وهنا أيضاً لا ندري إلى أي حد قد بلغ عطف المؤلف على الشعب المصري، والى أي مدى قادته الرغبة في تمجيده؟!
ويقف المرء حائراً. . . أي وجهة يوليها في حديثه عن هذا الشعب الذي نبغي كلنا خيره؟ هل نمس في رفق عيوبه، ونواريها عنه إلا بمقدار، ليظل محتفظاً بثقته بنفسه؟ أم نشق عنها الحجب، ونلقي الضوء كاملاً لعله يثيب؟ وإذا عالجنا ماضيه، هل نقسو في الحكم، أم نلين؟ وهل نحابيه، أم نزجره؟
إذا لم يكن بد من أن نفصل في هذه الاتجاهات العويصة، وجب - فيما أظن - أن نفرق بين الحاضر والماضي: فأما الحاضر، فالحكمة في أن نحدد فيه البصر حتى لا يأخذنا غرور مميت. وباستطاعتنا أن نتجنب الخطر بالا نقف عند تصوير العيوب، بل نلتمس لها العلاج. وليس من شك في أنك لن تستطيع حمل النفوس على قبول جديد وتغيير قديم ما لم تبصرهم بما في هذا القديم من عيب. والأمم لا يمكن أن ترقى ما لم يشتد بها النقد، وفيم الرغبة في التغيير إذا لم يؤمن الناس بضرورته؟
وأما عن الماضي، فلعلنا نكون أقرب إلى الروح العلمية الصحيحة كلما كانت نظرتنا أكثر عمقاً وأكبر اتساعاً. وآفة الأحكام في تفسير الظواهر كثيراً ما تأتي من التعميم، فالمصريون مثلاً إذا كانوا يكرهون النصب ويؤثرون السلامة أكثر مما يحبون الحرية، فإن ذلك لم يمنعهم عندما يشتد بهم الاستبداد من أن يغامروا بسلامتهم مؤثرين الحرية على كراهة النصب. وفي حركاتهم الثورية أيام الحملة الفرنسية وعرابي ودنشواي وسنة ١٩١٩ أدلة على صدق ذلك. وهم إذا كانوا بفطرتهم محافظين يكرهون الخروج على ما ألفوه فيثورون، إلا إنه قد لا يخلو من ظلم أن نرد حركتهم كلها إلى هذا الباعث، فهم إذا كانوا لم يتحركوا لفكرة الاستقلال الوطني بحكم تبعيتهم المتصلة للدولة العلية وعدم نشوء فكرة الانفصال عندهم إذ ذاك، إلا أن الشعور الديني مثلاً كان لا ريب من الحوافز التي يجب أن تضاف إلى نزوعهم إلى المحافظة على ما ألفوه. وها هو ذا الجبرتي نفسه يحمد الله أن سخر طائفة من النصارى (الإنجليز) لطرد طائفة أخرى (الفرنسيين) من أرض الوطن، وبذلك يتحقق - فيما يقول - قول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر). وهل من شك في أن الدافع الديني كان من محركات سليمان الحلبي مثلاً في قتله