للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أو غرض إلى انحراف أو ميل. أو تفضيل قوم على قوم. وإنما يكتب بحسب ما ظهر له إنه الصواب

ولكن المتصفح لكتابه يرى فيه تحاملاً وتجنياً. فهو متحامل على لندن. ولعل ضبابها ودخانها أثرا في مزاجه، وهو رجل مرهف الحس، مرح كثير النقلة والحركة. فلم يعجبه محبسه في بيت إنجليزي هادئ أمام موقد يرمي باللهب. وآثر الانطلاق إلى بعض عواصم أوربا الموسومة بحياة خارج الدور لا تسجن بجدران! ولا تثقل بوجوه دائمة من السكان.

وفي رحلة الشدياق إلى إنجلترا من الحقائق والإحصاءات الدقائق والدرس الواسع ما لا يستهان به. وكان يسعفه في ذلك الرجوع إلى الوثائق الرسمية. ومن هنا كان لكتابه قيمةٌ تاريخية

ولمشاهداته قيمة من ناحية الاستقصاء، وفيها كثير من الموازنة والظرف والفكاهة، والسخرية اللاذعة التي لازمت الشيخ الأشيب حتى على بياض لمته. . .

فالقرية الإنجليزية الصامتة المتزمتة التي وصفها الشدياق هي هي التي نراها اليوم (ليس فيها مواضع للهو والحظ، وإذا أرادوا اللهو عمدوا إلى أجراس الكنيسة يضربونها فتقوم عندهم مقام آلات الطرب) وذلك حق من الشدياق؛ فالريف الإنجليزي على جماله يخيم على قراه هدوء حزين لا يسر الطبائع المرحة التي تجد في الحركة والصخب أنسا وراحة.

والشدياق يصف من الريف أرضه وسماءه وكل شيء فيهما. . . حتى البقلة الناجمة والزهرة الحالمة. . . ويوازن بين بقل وبقل، وزهر وزهر. ويدرك الفرق بين أزهار مالطة وشبيهاتها في فرنسة وإنجلترا، ويصف حيوانه وصفًا دقيقاً. ولا تفوته النكتة فيقول (ومما من الله به على هذه البلاد - يعني إنجلترا - أن ليس فيها حيات ولا عقارب ولا سوام أبرص، ولا ابن آوى يعوي في الليل، ولا نمس يأكل الدجاج ولا بعوض يمنع من النوم، ولا براغيث في الربيع إلا نادرا)

والشدياق حين يلاحظ الأمور الجارية في رحلاته يردها إلى علل معقولة طبيعية أو اجتماعية. فالإنجليزي يتخطى السبعين ولا يخط الشيب رأسه ولا عارضه. على عكس ما هو حادث في الشرق. ويرد ذلك إلى أن الشيب سببه الهم والخوف وتوقع المساءة من أولي الأمر وذلك معدوم في إنجلترا لفشو العدل بينهم واطمئنان الناس إلى حقوقهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>