للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فأومأت إليه إيماءة خفيفة، فطار من فرط الفرح، وكانت آية حبه أن يحلق في الجو طائراً حولها يرتفع أحياناً ويسف بجناحيه أحياناً حتى يضرب بهما صفحة النهر، فيخط عليه سطوراً من فضة كانت هي تقرأ فيها التحية والإجلال، وكانت هذه تحيته طوال أشهر الصيف،

ولقد شاع حديث حبه بين أبناء جنسه، فتغامزوا عليه يتساءلون عن هذه الصلة التي توثقت بينه وبين المغردة، وهي ليست بذات مال ولها من أقربائها عدد وفير، وكان النهر غاصاً بأسراب المغردات.

ثم رحل رفاق السنونو رحلة الخريف وشعر صاحبنا بعدهم بسأم الوحدة وشاع السأم في نفسه حتى غشى حبه لصاحبته المفردة، فبدا له ما يعيبها من صمتها، وحدثته نفسه بأنها فتاة مبتذلة، ولا سيما وقد رآها تداعب الهواء في خفة ودلال!! وهو أن وثق بما لها من طبيعة الاستقرار، فلا يتفق طبعها مع ما جبل عليه من حب الأسفار، ولن تكون له إذاً الزوجة الصالحة، وصارحها يوماً برأيه فسألها (أتظعنين معي؟) فهزت رأسها مستنكرة أن تهجر وطنها. ولقد ساءه منها إباؤها، وصاح في وجهها (أنت إذاً كنت عابثة في حبي؟ سأرحل عن ديارك إلى الأهرام!! وداعا!! وداعا!!) وطار

طوى نهاره طائراً وأدركه الليل عند المدينة، فتحسس فيها مهبطاً سوياً، وساءه أن المدينة لم تعد له العدة لهبوطه، ثم تراءى له التمثال فطاب له النزول عليه، واستهواه من المكان هواؤه العليل واتخذ له بين قدمي الأمير مقعداً. ثم دار ببصره في المكان يتبينه، وقال معجباً (ما أجمله فراشاً من ذهب) ثم طوى رأسه تحت جناحه، وما لبث أن أحس بقطرة من الماء تسقط عليه فعجب للسماء تمطر بغير سحاب، والنجوم سافرة بغير حجاب، وما له يعجب لهذا الجو وهو في شمال أوربا أشد نكاية بالخلق وأبلغ إيذاء، ثم خطرت له المغردة وحبها لوطنها المطير وقال (إنها لمؤثرة) ثم قطرة ثانية تسقط عليه فينحى باللائمة على هذا التمثال القائم (أما فيه على طول قامته عاصم من الأمطار؟؟.) (سآوي إلى رأس مدخنة لعل فيها من المطر تقية) وهم بأن يطير فشخص ببصره إلى السماء ورأى. . . . وما أعجب ما رأى. . . . غشيت الدموع عيني الأمير السعيد، وهطل الدمع على خديه الذهبيين مدراراً، وبدا وجهه تحت سنا البدر في حلة من الجمال،

<<  <  ج:
ص:  >  >>