قد كنت احسبني منكم على ثقة ... حتى منيت بما لم يجر في بالي
لم أجن في الحب ذنباً استحق به ... عتبا، ولكنها تحريف أقوال
ومن أطاع رواة السوء نفره ... عن الصديق سماع القيل والقال
ولكن شعره الثائر وما عرف عنه من حب المجد والسعي إلى العلا، لم يكونا مما يدفع ولاة الأمر إلى الصفح عنه والمغفرة، فاستسلم إلى حكم القدر، وسلم نفسه لله، ولجت به الرغبة في زيارة الرسول الكريم، وأنشأ الشعر في مدح النبي والثناء عليه، ولكنه مع ذلك لم يسل يوما مجده ووطنه، بل أخذ يبث شعره شوقه إلا ملاعب شبابه وصباه، وما كان له من سلطان وجاه، فهو لا ينفك ذاكرا الماضي مشتاقا إليه، يحن إلى ملاعب الروضة وحلوان، وكان كلما تقدمت به السن، خلف الشباب وراءه، فتلفت يبكي هذا العهد السعيد الذي قضاه في وطنه ممتعاً بالأهل والأصدقاء والأحباب والسلطان، ويوازن بينه وبين ما صار إليه من ضعف وهوان، وقد وصف هذه النفسية القلقة المشتاقة حين قال:
أحن إلى أهلي، وأذكر جيرتي ... وأشتاق خلاني وأصبو لمألفي
فلا أنا أسلو عن هواي فأنتهي ... ولا أنا ألقى من أحب فأشتفي
أو حين تحدث في لهفة وشوق قاتل إلى النيل قائلا:
فهل نهلة من جدول النيل ترتوي ... بها كبد ظمآنة ومشاش
أو حين يذكر الماضي متأسفا على حاضره:
لله أيام بهم سلفت ... لو إنها بالوصل تأتنف
إذ لمتي فينانة ويدي ... فوق الأكف وقامتي ألف
أجري على إثر الشباب ولا ... يمشي إلى ساحاتي ألجنف
إن سرت سار الناس لي تبعاً ... وإذا وقفت لحاجة وقفوا
فالآن أصبح طائري وقع ... بعد السمو وصبوتي أسف
بل لقد انتهى به الأمر إلى أن أصبح يتمنى العودة إلى الوطن ولو عاش فيه فقيرا مملقاً.
أما حزنه على الشباب وبكاؤه عليه وألمه من الشيب وما ناله فيه من الضعف ففي كثير من قصائد منفاه، وهاهو ذا يصور لنا نفسه في عزبته شيخا أخلق الشيب جدته، ولوى شعر حاجبيه على عينيه، وضعف بصره فصار يرى الشيء كأنه خيال، وإذا دعي لم يتبين