فترنحت أعطاف معن، ووصله بناقة فتية وألف دينار وهو لا يعرفه
وقد أجمعت كتب الأدب على هذه الحادثة، وذكرها البغدادي صاحب (تاريخ بغداد) بسندها واحداً عن واحد
ولقد بلغ من مكانة معن في الكرم أن الكرام بعده حاولوا أن يتأثروا في جوده. فهذا الصاحب بن عباد وزير بني بويه، والذي ظهر بعد معن بأكثر من قرنين من الزمان، هذا الصاحب كان يعطي على طريقة معن أو يجود على مذهبه، فقد جاءه شاعر يمدحه، فقال الصاحب: قرأت في أخبار (معن) أن رجلا قال له: ارحمني أيها الأمير. فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية، ثم قال له: لو علمت أن الله خلق مركوباً غير هذا عليه، وقد أمرت لك من الخز بجبة وقميص وعمامة ودراعة وسراويل ومنديل ومطرف ورداء وكساء وجورب وكيس. ولو علمنا لباساً آخر يتخذ من الخز لأعطيناك إياه. . .!
وكان في معن رجولة نادرة، وشهامة عربية عزيزة المثال، فلقد كان منقطعاً إلى الأمويين قبل ذهاب دولتهم، فلما جاء العباسيون خاف منهم، وظل في البلاد مستتراً عنهم حتى لا يقع في أيديهم، وجعل (المنصور) لمن يأتي به مالاً جزيلاً. وظل الرجل ضارباً في الفلاة، هائماً في الأرض حتى لوحته الشمس. وكان يتتبع الحوادث وهو متخف حتى لا تأخذه يد العباسيين، فلما استقام الأمر للمنصور، وكادت الدولة تتمكن، رأى (معن) من حسن السياسة أن ينضم إليهم، ولكنه تمهل في الأمر حتى تحين الفرصة. . .
وجاءته الفرصة سانحة. . . فقد ثار جماعة من خراسان على المنصور، وأرادوا قتله في يوم الهاشمية
وكان عند معن نبأ عن هذه الثورة، فخرج متنكراً، وما زال يقاتل دون المنصور حتى فرق الثائرين، فقال له المنصور: من أنت. . . ويحك؟!
فكشف لثامه في عزة وقال: أنا طلبتك يا أمير المؤمنين!
(من ذلك الحين اتصل بالعباسيين وانقطع إليهم واستعين به على قضاء الحاجات عندهم، فما رد سائلاً، ولا خيب طالباً
واشتد فضل الرجل، فاشتدت له عداوة الحاسدين وكشح الكاشحين؛ وهم في كل زمان لا تهدأ قلوبهم ولا تخبو نارهم. وكانوا يكثرون القول فيه والخوض في أعماله أمام الخليفة،