للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الرسالة عامها الجديد وهي على حال من القوة والفتوة والجدة توافق هذا الجهاد وتطابق هذه السن. ولكن الشياطين ما برحوا يحتلون مختبرات العلماء ومكاتب الزعماء ورءوس القادة. وراس الشيطان كنفس الإنسان لا يسبر غورها ولا يحد مداها، فإذا خبت نار، ذكت نار، وإذا سكن إعصار ثار إعصار، وكلما أنكشف سر تلاحقت أسرار. فالخطة تنسخ الخطة، والعدة ترفد العدة، والاختراع يتبع الاختراع. وليس يعرف لهذه القوى الجبارة أمداً تخور عنده إلا الخبير القدير الذي شاء أن يطامن من كبرياء الإنسان ويكسر من غروره، فسلط هواه العارم على عقله القاصر ثم وكله إلى نفسه، فاعتل ادراكه، واختل توازنه، وأنطلق في ضراوة الوحش، ورعونة العاصفة، يدمر ما عمر، وينقض ما أبرم، ويقتل ما ولد!

ليست هذه الحروب مقصورة على جهاتها المادية بين الجيوش المتحاربة في أوربا واسيا إنما هي زلزلة اجتماعية عامة هزت كل وطن، وبلبلت كل نفس، وزعزعت كل نظام، فمن لم يجدها في جيشه أو على أرضه وجدها في نفسه وفكرة وعقيدته وأحزابه وتقاليده ونظمه. والأسلحة والوسائل تختلف باختلاف البواعث النفسية في كل محارب؛ فقد تكون، إذا تحركت في الجماعة حوافز السمو ونوازع الكمال، ثورة على قيد يعوق نهضتها، أو على حكم يلغي إرادتها

وقد تكون، إذا اضطربت في قرارة هذه الجماعة كدورة الطين وشهوات البهيم، اعتداء على حرم الناس بالدس والسباب، أو بالسرقة وإلاغتصاب، أو بالغدر والحيلة؛ أو تمرداً على الأوضاع الطبيعية، فيرغب الفقير الكسول في ثروة الغنى المجد، ويتشوف العاجز الكل إلى منصب القادر الكفء، وتطلب المرأة الخرقاء مساواة الرجل في الحق دون الواجب.

ستنطفئ ثائرة هذه الحرب في وقت ما؛ وستأتي نتائجها بالطبع منطقية مع أسبابها التي بعثها على صورة من هذه الصور. فأما الذين أنفقوا فيها من أنفسهم وأموالهم، في سبيل أمجادهم وأمالهم، فسيجدون الكمال في هذا النقص، والحياة في هذا الموت، كالشعر يغزر ويقوى بالقص، وكالشجر يغلط ويرف بالتقليم. وعقبي مثل هذه الحرب على الغالب والمغلوب وثبة إلى الرقي الإنساني والعمراني يفتتح بها عصر ويبدأ تاريخ الإنشاء

وأما الذين أنفقوا من فضائلهم وأخلاقهم، في سبيل مناصبهم وأرزاقهم، فقد خسروا كل شيء خسروا ما لا كفاء له ولا عوض منه، وربحوا ما لا بقاء له ولا فضل فيه وهل تغني المادة

<<  <  ج:
ص:  >  >>