الإنسانية - فالإنسانية ليست هي هذا الجيل وليست هي بضمة الأجيال المقبلة. . . إنما هي الأجيال الماضية منذ الأزل، والأجيال المقبلة طول الأبد. وهذه وتلك لا تنكمش في هذا الحيز الضيق، حيز جيل من الأجيال. ثم أن هنالك مطالب الإنسانية التي لا تنحصر في ضرورات الطعام والشراب؛ ولا في حيز الضرورات على الإطلاق؛ وإنما تتطلع إلى آفاق ارفع وارحب؛ وتهفو حتى في اشد حالات الضرورة إلى ألوان من الفن المطلق الرفيع
وإذا صح أن أدب الوعي الاجتماعي ضريبة على كل فنان، فلتكن نسبته هي نسبة الضرائب إلى مجموعة الإيراد! بل ليكن فرض كفاية على الفريق المهيأ له من بين جموع الفنانين، فالتجنيد قد يصلح في كل بيئة إلا بيئة الفنانين!
ثم أبادر إلى تصحيح وهم ربما يكون قد سبق إلى ذهن القارئ حين وصفت هذه القصة بأنها من (أدب الوعي الاجتماعي). . . إن انحصار القصة في هذا الحيز لم يسلبها السمة الفنية الأصيلة. وأن المؤلف ليبدو في قصته هذه صاحب موهبة فنية لا سبيل إلى الشك فيها. موهبة العرض والتنسيق ورسم الملامح والشخصيات، وإدارة الحوادث والمفاجآت. . . فهي من هذه الناحية تستوفي صفات القصة الجيدة على وجه العموم.
ثم هي تحمل طابع مؤلفها بوضوح في نواحي النقص فيها ونواحي الكمال. فالمؤلف صاحب طريقة مطبوعة وأسلوب مرسوم. وهذا يقرر وجوده الفني في عالم القصة بلا جدال
يعمل المؤلف في جو متماوج مخلخل، جو (الضباب والرماد) فتمر الحوادث والشخصيات والملامح والانفعالات مرا متأرجحاً متماوجاً. وتبدو للعين كما تبدو الناظر وراء الضباب. . . ليست هناك مواقف حاسمة، ولا انفعالات صارمة، ولا حركات عنيفة، ولا ضجات توقظ الإحساس. وحينما تنتهي القصة تحس أنك في حاجة لأن تقراها من جديد لتتثبت من ملامحها التي مرت من قبل مر السحاب! وربما خطر لك أن تسأل، ماذا يريد؟ ثم تتوارى الشخصيات والحوادث لتجد في نفسك انفعالات غامضة متماوجة تثير القلق والتأرجح والاضطراب
. . . يخيل إلى أن هذا كل غرض المؤلف من عمله الفني - أن كان له غرض -: أن يثير القلق الغامض والتأرجح المضطرب، وأن يغمر اليقين الهادئ ويطلق في النفس