قد هجر زوجته وأبناءه أربعين يوماً ليقيم في تلك الخلوة يعبد الله فيها آناء الليل وأطراف النهار لا يرى أحدا ولا يراه أحد، وإنما يحمل له الطعام من خصائص الباب. ولقد أثار هذا الخبر خيالي فكنت ألاحق أبي بالسؤال عنه ولكنه رجل كتوم لسره فلم احظ منه بجواب غير أن دافعه كان عبادة الله وكفى. ثم علمت أن الشباب كان قد ساقه في مهاويه فلم يجد عصمة خيراً من معاهدة أحد علماء الدين على التوبة إلى الله. وكان هذا العالم نقشبندي المذهب وكان رجل خيراً، فلم يعد تأثيره على والدي حد توجيهه نحو تجنب الإثم، وعبادة الله، والإحسان إلى الناس، وقراءة كتب الدين ولكم من مرة حاولت ان اعرف شيئا عن هذه الطريقة فكان أبي يرفض الإدلاء بشيء، مكتفيا بان يخبرني بان تلك أسرار لا يجوز أن تباح، ومن غريب الأمر أنني علمت منذ ثلاثة أشهر فقط أن لفظة نقشبند معناها النقش على القلب. واستنتجت من ذلك أن سر هذه العبادة هو أن يستشعر الفرد دائما أن اسم الله منقوش على قلبه. ولقد لاقيت والدي منذ أيام فأخبرته فرحا مسرورا أنني قد عرفت معنى الفظة دون بحث عنه، ولكن بتوفيق من الله ساقه إلى سوقا. فدهش الرجل وقال:(هو هذا وهو سر العبادة) وإذن فقد خلا أبى لعبادة الله أربعين يوما، وتحرك خيالي لتلك الخلوة، ولكنني لم يكشف لي عن سرها، واقتنعت بأنه لا يجوز لي لن أتطاول إلى معرفة هذا السر، ولقد آمن أبي سنين طويلة بأنه قد نقش اسم الله على قلبه واتخذ من هذا النقش سبيلا إلى حمده منعما وسالباً، وسمعت بذلك، ولكني أيضاً لم أكشف سر هذا الحمد، وآمنت انه لا يجوز لي لن أتطاول إلى كشفه، وهكذا تهيأت نفسي إلى الإيمان بالمجهول والاطمئنان إليه والثقة به، وأكبر ظني أن الخير ما أراد الله. فلو أن أبي بصرني بما أردت لخلت نفسي من الأسرار ولا أصابها العقم. واتفق أن أبي لم يستطع أن يتم حجه في بعض المرات إذ أصيب بنقرس شديد في السويس وأنا عندئذ في السادسة من عمري، والزمه المرض الفراش عامين كاملين قاسى فيهما من الألم ألوانا حتى لا أزال حتى اليوم كلما ذكرت أنينه اقشعر جلدي. ولست ادري لأي سبب ارتبط هذا المرض في نفسي بالإيمان حتى لا احسبه ثمن ما افاض الله علي والذي منه، ولا زلت منذ ذلك أؤمن بأنه لابد أن يبتلي الله المؤمن ليختبر إيمانه وان المرء لابد تاج ما سلم الإيمان في قلبه
وعندما اختارتني الجامعة لبعثها حدث حادثان صغيران كان لهما في نفسي ابلغ الأثر: