ألقاها فما أرى وجهها يربد أو يتمعر، فكان ذلك غيظي وشقوتي، لا تزيدهما الأيام إلا اتقاداً. ويلمه كيلاً بغير ثمن! كم ذا أغيرها فلا تغار!
وأقبلت ذلك اليوم، بعد مرجعي من الكوفة بشهر أو اكثر، فاستقبلني جوان (هو ولد عمر من كلثم) فقال: (يا أبه. امي، ما فعلت بها؟) قلت: (أمك! بخير يا بني وعداها السوء). قال:(كلا يا أبه، وما ادري ما بها، غير أني ظللت أياما أستخبرها، وهي خالية، عما بريبها أو يؤذيها، فلا أسمع منها إلا ما تنشده من شعرك
كُمَّا كَمثل الخْمرِ كان مِزَاَجَها ... بالماء، لا رَنْقُ ولا تكديرُ
فإذا وذلك كان ظِلَّ سَحَابة ... نَفَحَتْ به في المُعْصراتِ دَبورُ
(ثم تنظر إلي وتقول: يا جوان، امض لشأنك، ولا تنسني في صلاتك، فورب هذه البنية، لقد حملتك ووضعتك وأنا أدعو الله أن يجنبني الشيطان، وان يجنب الشطيان ما يرزقني، فكنت أنت يا بني دعوتي، فادع ربك يا جوان لامك التي حملتك وهنا على وهن.
فابْكَ ما شئتَ على ما انقضىَ ... كل وَصْلَ مُنْقَض ذاهبُ
لو يردُّ الدمعُ شيئاً، لقد ... ردَّ شيئاً دمعُك السِاكبُ
فأقول: (يا أماه لقد أفزعتني!) فتقول: (اذهب يا بني (لو ترك الفطا ليلاً لنام). ثم تشيح وتنصرف، ولا والله ما قدرت منها على اكثر من أن أسألها فتجيبني بمثل ما أخبرتك. فبالله، يا ابه، لا تدع أمي تموت بحسرة تتساقط عليها نفسها! ارحمها يرحمك الله.
ويذهب جوان ويدعني لما بي، ويأخذني ما حدث وما قدم، وكيف ولم أنكر منك يا كلثم شيئاً منذ رجعت من غيبتي بالكوفة؟ وأني لأدخل عليها فتداعبني وتضحك لي وتذهب بي في لهوها مذاهب، ولا والله أن وقعت منها على مساءة تضمرها أو هم تكتمه، وكأن الحياة قد منعت دونها غير النفس فهي لا تتغير. وهذا جوان يقول، فلئن صدق لقد كذبتني عيناي وكذب على قلبي، وان كلثم لتلهو بي وتتلعب وأنا في غفلة عن كبر شأنها وأساها! وأذهب من ساعتي أدور في الدار انظر، فإذا كل شيء أراه قد لبس من هم نفسي غلالة سوداء نشأت بيني وبينه، وإذا أيامنا المواضي قد بعثت في أسمال هلاهيل تطوف متضائلة في جنبات البيت وهي تنظر إلى نظرة الذليل المطرد المنبوذ، وإذا كلثم قد خرجت إليهن كاللبؤة المجربة ربعت أشبالها، وإذا أنا اسمع همهمة كأنين الجريح تنفذ في أذني من حيثما