أصغيت، وما هو إلا أن أراني في فراشي قد توكأت علي مرفقي، والغشية التي أخذتني تتقشع عني شيئاً بعد شيء. وبعد لأي ما ذكرت ما كان من حديث جوان كما كان، فنهضت من مكاني اطلب كلثم في غرته حيث هي من البيت.
وقصدت مقصورتها فإذا هي قد اجافت الباب، فذهبت أفتحه وان يدي لتأبى على أن تمتد خشية أن اطلع منها على ما يسوءني، وهي أحب إلي من أراها مغمومة أو مكروبة، على غير ما عودتني وعودتها. فأستأذنها من ورائه فقالت:(مهلا يا أبا الخطاب، وبخير ما جئت). فقلت لنفسي:(كذب والله جوان وما كان كاذباً). فلما فتحت لي الباب رأيت سنة وجه كالسيف الصقيل يبرق شباباً ورضي، وقالت:(مرحباً يا عمر، لو رأيت الساعة جارتي وهي تدخل على ساعية تجري تقول: سيدتي أدركي مولاي فقد سمعت الناس يتناشدون من شعر قاله اليوم، وإذا فيه
ليسُ حبٌّ فوق ما أحبَبْتُها ... غير أن اقتل نفسي أو أَجّنْ
فاحفظيه يا سيدتي من روعة المصيبتين. فقلت لها: لقد وفى مولاك السوء أن ليس بينه وبين الناس إلا لسانه! ولا يقتل مولاك نفسه أو يجن حتى يقتل الحمام نفسه على هديله أو يجن)
لم ادر ما أقول، فقد كانت كلمات جوان قد تشبحت لعبني ودوت في أذني، فما أطقت صبرا أن أسألها:(ما يقول جوان؟ زعم انك لا تزالين مهمومة لأمر يستخبرك عنه فلا تخبرينه، ولقد مضت السنين بيني وبينك، ولا والله ما علمت إلا خيراً ولا رأيت إلا خيراً، وما قال إلا ما يجعلني آسى على ما كان مني إليك مما ساءك أو رابك). وما كدت أتم حتى رأيتها تنتفض كالرشا المذعور أفزعته النبأة، وبرفت فتخاذلت وغرق صوتها فما تنطق، فخاصرتها ومشيت بها إلى مجلس في البيت وجلست أتحفى بها حتى تهدأ. وبعد قليل ما قالت:(أما إذا كان هذا يا أبا الخطاب فوالله أن كتمتك شيئاً).
ثم أطرقت ساعة، وأنا أنفذها ببصري اطلب غيب ضميرها، ثم رفعت إلى بصرها ونظرت نظرة المرتاب ثم قالت (إني محدثتك يا أبا الخطاب عما كان كيف كان. هذه جارتي ظمياء تدخل علي كالمجنونة منذ أيام تقول: (آمنت يا ظمياء! ما يروعك؟) فتقول: (لا والله ما يروعني إلا أن ادع مولاتي توصم بين نساء قريش وبني مخزوم، ويتحدث