فيه الحركات الظاهرة، والانفعالات المضمرة، وتلتقي فيه الصورة الحسية بالصورة النفسية كأنما يمثل الحادث من جديد، ويقع مرة أخرى كما وقع في المرة الأولى، دون أن يغفل منه قليل ولا كثير:
(يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم، إذ جاءتكم جنود، فأرسلنا عليهم ريحاً وجنود لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيراً. إذ جاءوكم من فوقكم ومن اسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا. وإذ يقول المنافقين، والذين في قلوبهم من مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. وإذ قالت طائفة منهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم، فارجعوا. ويستأذن فريق منهم النبي يقولون: إن بيوتنا عورة
- وما هي بعورة - إن يريدون إلا فراراً).
فأية حركة نفسية أو حسية من حركات الهزيمة، وأية سمة من سمات الموقف الكثيرة، لم يسجلها هذا الشريط الدقيق المتحرك المساوق لحركة الموقف الأصيل؟
٥ - وهذا مشهد واحد من مشاهد القصص الكثيرة، مشهد في قصة الطوفان.
(وهي تجري بهم في موج كالجبال) وفي هذه اللحظة تتنبه في نوح عاطفة الأبوة. فان هناك ابنا له يؤمن، وانه ليعلم انه مغرق مع المغرقين. ولكن هاهو الموج يطغي، فيتغلب (الإنسان) في نفس نوح على (النبي) ويروح في لهفة وضراعة ينادي ابنه:
(ونادى نوح ابنه - وكان في معزل - يا بني اركب معنا، ولا تكن من الكافرين).
ولكن البنوة العاقة لا تحفل هذه العاطفة، والفتوة المغرورة تعتمد على القوة الشخصية.
(قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء. قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم).
وفي لحظة تتغير صفحة المشهد في تعبير خاطف، يصور الموجة العاتية تطغى على كل شيء: (وحال بينهم الموج. فكان من المغرقين).
إن السامع ليمسك أنفاسه في هذه اللحظات القصار: (وهي تجري بهم في موج كالجبال؛ ونوح الوالد الملهوف، يبعث بالنداء تلو النداء، وابنه الفتى المغرور، يأبى إجابة الدعاء، والموجة العاتية تحسم الموقف في لحظة، فكان من المغرقين).
وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية - بين الوالد والمولود كما يقاس بمداه في