النعيم. فما هو إلا أن تستثيرها وتوجهها الجهة الصالحة حتى تأتي بالعجائب في ميادين الثقافة والتقدم.
وعلى خلاف ذلك كانت بيزنطة وفارس، فقد كانتا في حروب متواصلة تنتصر هذه مرة وتفوز تلك أخرى؛ وبرغم ذلك لم تكن الحالة السياسية الداخلية في كلتا الإمبراطوريتين لتعرف الهدوء والاستقرار. أما الأخلاق فقد بلغت منتهى التدهور والانحطاط حتى عادت النفوس ولا مهما زلها يدفعها ويثير فعاليتها غير الشهوة الجنسية، وإلا فما معنى ذيوع مذهب مزدك في ذلك العصر - وهو مذهب إباحي هدام - لو لم تكن النفوس مستعدة لقبوله؟!
والى جانب ذلك كان يقوم في اكثر أنحاء العالم تقريبا نظام من الاسترقاق الفظيع الذي لا يعرف غير العنف والقوة في معاملة الأرقاء والمستعبدين، فكان مباحا للسادة أن يتصرفوا في حيوات أرقائهم كما يتصرفون في سائر أمتعتهم، فإن شاءوا ابقوا وان شاءوا أبادوا ودن أن يسألوا أمام قانون أو عرف. وإذا عاقبوهم فبالك على الجباة والجلد بالسياط إلى آخر ما هنالك من ضروب القسوة.
وقد يخطر لأحد القراء أن يسأل: وأين إذن تعاليم المسيحية لتعتكف من غرب هذه الشهوات ونجد من جموحها النفوس إلى نقاوة الفطرة وطهارة الإيمان. . والجواب على ذلك أتركه للمؤرخ الإنجليزي (جيبون) إذ هو خير من توفر على دراسة هذا العصر: قال جيبون (إن النصرانية في القرن السابع للميلاد قد استحالت وثنية، فقد أصبحت الوجوه تولى شطر الأصنام والأنصاب التي حلت محل الهياكل والمعابد واخذ مكان عرش الله وعظمته القديسون والشهداء، وحارت الإفهام في معنى التثليث والاتحاد والحلول وعموا عن التوحيد).
أما في مكة والطائف فلم يكن الوضع أحسن منه في بيزنطة وفارس؛ فقد فشا فيهما الانحلال الخلقي وسلفت مكانة المرأة حتى وأد الآباء بناتهم، وجاس المرابون خلال الشعب يمتصون دمه مستغلين فقره وحاجته، حتى أكره بعض المحتاجين بناتهم على البغاء ليستطيعوا وفاء ما ركبهم من ديون؛ فلما جاء القرآن نهاهم عن ذلك (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا).