فطفق من صومعته يرسل الصيحة بعد الصيحة مدوية في آفاق الضمائر العالية لا تحول جلبة النيران دون بلوغها. وجعل شعاره تلك الكلمة التي سارت بعد ذلك سير الأمثال بعد أن جعلها صيحة الحرب في سبيل السلام، وهي:(فوق المعركة) مهيبا فيها بعقول المفكرين والمصلحين أن يرتفعوا بضمائرهم فوق هذه الوغى المصمة للآذان. فحسب البغضاء البهيمية أنها تصم السمع فلا ترتفع صعدا حيث لا ينبغي لها أن ترتفع فتصم الضمير
ولم يزل يكتب إلى كل أديب ينساق في دفعه الحرب سواء من صفوف قومه أو من صفوف الألمان: يكتب إليه ليذكره برسالة الأدب وواجب الكرامة البشرية في أمثال تلك الأوقات العصيبات، فيقبل منه من يقبل ويعرض عنه من يعرض. وهو مع يأسه الذي وصفه لنفسه في مذكراته لا يكف بينه وبين الناس عن الجهاد
ذلك هو رومان رولان
ذلك هو الكاتب الإنساني الكبير الذي يغني وصفه اليسير عن تسميته أو الإفاضة في وصفه، لأنه تفرد بغير شبيه من قومه أو أعداء قومه في هذه الشمائل الروحية، وهذه السمات النوادر بين أدباء هذا الزمان
كانت دعوته الفنية قبل دعوته الروحية دعوة رسول إنساني في عصر الفتن والزعازع والخصومات
فكتب عن بتهوفن وهو ألماني، وكتب عن ميكالنجلو وهو إيطالي، وكتب عن تولستوي وهو روسي، وكتب سفره العظيم الذي سماه جان كريستوف ليسرد فيه قصة فنان يحب الجمال الموسيقي حيث رآه الإنسان حيث كان
وقد رأينا أنه كان يناجي نفسه في مذكراته وهو يتلهف على علامة واحدة تبشر بمدينة الله وتؤذن أن تقام في يوم من الأيام بعد رجعة السلام. فما هو إلا أن سمع باسم المهاتما الهندي غاندي وعلم بحرية للحرب وكراهيته للكراهية ووصيته الأقربين والغرباء أن يقابلوا العدوان بالإحسان حتى تفاءل واستبشر وبادر إلى اللحاق بهذا الأمل المقبل من بعيد، فكتب سيرة غاندي وكتب سيرا أخرى لأنبياء الهند وحكمائها، وكان في عطفه على غاندي وقومه لا ينم على نزعة واحدة من نوازع البغضاء لمن يضطهدونه ويسيئون إليه
من أين للأديب الفرنسي هذه الروح السلمية الإنسانية العامة وقد حضر في حياته ثلاث