حروب أصيبت بلاده في كل منها بأفدح الخسائر وأهول النكبات؟
فتح عينيه للدنيا في الرابعة من عمره على حرب السبعين التي منيت فيها بلاده بالهزيمة الجائحة، ثم شهد الحرب العالمية الماضية، وشهد الحرب العالمية الحاضرة في أصعب أدوارها وأخطرها على الأمة الفرنسية
ومن دأب هذه الحوادث أن تذكى في نفوس من يشهدونها عصبية عنيفة للوطن أو تعودهم السخر بكل شيء وقلة الاكتراث لأمر من الأمور، يأسا من الأحلام الجميلة واعترافاً بالوقائع الأليمة التي تبلبل الخواطر وتشتت الأذهان
وقد ظهر في الأمة الفرنسية فعلاً كتاب متعصبون متحمسون كما فيها كتاب ساخرون متهكمون. فلماذا خالفهم رومان رولان في هذه الروح ونزع في حياته وفي كتابته منزعاً آخر غير منزع العصبية ومنزع السخرية بالأحلام الكبار؟
جواب ذلك في الوراثة والنشأة الفنية، وله جواب غير هذا الجواب في أفق التفكير الإنساني كله، سواء منه ما أتجه ذات اليمين وما أتحه ذات اليسار
فالكاتب العظيم قد ورث الحماسة الروحية من أبيه وأمه ومن بيئة أهله بأجمعها
كان أبوه من دعاة حقوق الإنسان في إبان الثورة الفرنسية، وكانت أمه من أتباع جانسن الذين عرفوا بحرارة الأيمان وخلوص العقيدة
فلم يكن للطفل المولود في هذه البيئة غني عن عقيدة تلتهب بها حماسته الروحية وتتعلق بها آماله الكبرى في حياته وحياة الناس كافة
ووافق ذلك أنه نشأ محباً للفن الجميل ولاسيما الموسيقى والمسرحية الخالدة. وشغفه في صباه اثنان من كبار أهل الفن المخلدين في هذين المجالين المقدسين، وهما بيتهوفن وشكسبير
ثم شغف مع بيتهوفن بالموسيقى الألمانية كلها لأنها كانت في صباه غالبة على الأذواق الموسيقية في معظم القارة الأوربية، فلم يستطع أن يبغض الألمان - أعداء وطنه - ومنهم صفوة الأرباب الفنية المحببة إلى فؤاده وضميره، وتمثل فيه من هذا الجانب ما تمثل قبله في (جيتى) الشاعر الألماني الكبير، فإنه كان يقول كلما لامه أبناء وطنه على إعجابه بالأمة الفرنسية: كيف أبغضها وأنا أعيش مع أبنائها في عالم الفن والجمال؟