رخاء، والحياة سهلة، والسلام قائم، فأولى أن تستل هذا القلم العضب اليوم، حين اشتد الخطب، واتسعت بين الفريقين الشقة، وازداد الأغنياء غنى، والفقراء فقراً، ونشأت هذه الطبقة المحدثة النعمة، التي شبعت من المال ولا تزال في جوع إلى الرفاهية والبلهنية واللذائذ: طبقة (أغنياء الحرب)
إن أهل القصر لا يزالون في لهوهم وقصفهم وأهل الكوخ لا يزالون في كدهم وجدهم، والمطر دائب ما ينقطع، والبرد قارس ما يخف، والليل موحش مخيف، فمن لهؤلاء المساكين، إن تجرد لنصرتهم الأقلام من أغمادها، وتشرع حتى تصدع على هؤلاء الأغنياء حجارة القصر الذي اعتصموا فيه، ليروا ما الناس ويسمعوا ما خطب المساكين، من إخوانهم في الوطن واللغة والدين. إنهم في سكرة الذهب، فاصرخوا فيهم حتى يصحوا منها، قبل أن يذهب السكر ويأتي (الأمر)، فيروا أن أمر الله إذا جاء لا يرد. أفهموهم - وكيف السبيل إلى إفهامهم - أننا رأينا رأى العين، ما قرأنا في الكتب، ولا سمعنا من الناس، من غنى الحرب الماضية أكثر مما غنوا، وبذر أضعاف ما بذروا، ثم ذهب المال والأهل، وغدا يسأل الناس على أبواب المساجد، ولولا أنه يحرم التصريح بعد التلميح، لصرحت بأسماء أقوام عرفناهم، وإن جهلهم من قصرت سنه عن أسناننا.
على أنني ما أعمم القول، ولا أطلقه إطلاقاً، وإن في الموسرين لمحسنين، وفي التجار لمنصفين، وما تخلو طبقة من خير ولا من شر ولكن في الموسرين من يريد الإحسان ولا يعرف المستحق له، ومن المستحقين من لا يعرف المحسنين، ومنهم من يعرف ولا يسأل، أولئك الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. وإن من أوجب ما يجب علينا في هذه الحرب أن ننشئ جمعيات موثوق برجالها، بأمانتهم ودينهم، تكون في كل حي كالوسيط بين الغني المحسن والفقير المحتاج، تأخذ من الأول وتعطي (بعد التحقق من حاجته) الثاني، ومن عرفت أنه أتخذ السؤال حرفة - على مقدرة منه على العمل، أو على مال له قد خبأه، فعل أكثر هؤلاء المكدين - رفعت أمره إلى الحكومة لتعاقبه عقاب المتشردين. ويا ليت هذه الجمعيات الإسلامية الكثيرة في مصر والشام والعراق: الإخوان والشبان والهداية والتمدن وأمثالها، تجعل ذلك المطلب من بعض مطالبها
ثم إن من أهم ما ينبغي لهذه الجمعيات أن تصنعه هو أن تختار للإحسان أسلوباً يهون به