الاطلاع على آداب غيرهم ولا لديهم رغبة في التتلمذ لسواهم، بل كانوا يرون أنفسهم هم الأجدر أن يحبذوا ويؤخذ عنهم، ولقد أخذ كثير من الأمم المفتوحة لغتهم واصطنعوا أدبهم بالفعل، وأصبح الناشئون في الأدب من أبناء الأجيال التالية لا يرون أن شيئاً يوصل إلىنيل الفصاحة والحكمة وحذق الأدب وراء دراسة القرآن واستيعاب شعر فحول المتقدمين، وإنما كان العرب أميل إلى الاعتراف بالقصور وإظهار الرغبة في الأمور التي لم يكن لهم فيها إلى ذلك الوقت باع ولا يد كالعلوم والفلسفة، فلم يروا ضيراً في أخذها على أساتذة اليونان.
ولم يقتصر أثر اعتداد العرب بأدبهم وشعرهم على ذود الأدب اليوناني عنهم، بل ذاد عنهم غير الأدب من الفنون: فلقد اطلعوا في أطراف دولتهم وبلاد جيرانهم على ما كان لدى اليونان والرومان والفرس والمصريين من تصوير ونحت، فما خطر لهم أن يحاكوا شيئاً من ذلك، وكان كل ما يساور شاعرهم حين يشاهد أثراً من هاتيك الآثار أن يتمثل بطش الدهر وحلول الفناء وسقوط الجبابرة فيقول:
أين الذي الهرمان من بنيانه؟ ... ما قومه؟ وما يومه؟ ما المصرع؟
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حيناً ويدركها الفناء فتتبع
وما ذاك إلا لانصراف كل قوى العرب الفنية إلى ضرب واحد من الفنون هو الأدب واستغراقها فيه. فهي لا تحاول وسيلة أخرى سواه للتعبير عن نفسها، ومن ثم ظل العرب طوال عصورهم لا يعرفون من الفنون سوى الأدب والموسيقى المعتمدة عليه المرتبطة به ارتباطاً وثيقاً، فلا تصوير ولا نحت ولا تمثيل، اللهم إلا ذلك الضرب الوحيد من الزخرفة ذات الأغراض العملية المحضة، ومن الخطأ نسبة انعدام تلك الفنون بين العرب إلىالدين: ففضلا عن أن الدين لا ينافي شيئاً منها فانه لم يحل دون استمتاع العرب بالموسيقى وغيرها حين أرادوا.
فالعرب إذن اتصلوا بالثقافة اليونانية في غير الوقت الملائم: في وقت متأخر، كان أدبهم فيه قد نضج وقوى، وصار له من الاعتداد بنفسه ما يثنيه عن التتلمذ لغيره، أما الآداب الغربية فعرفت تلك الثقافة في عهد طفولتها ونشأتها، وهي لما تزل عاجزة تعترف بعجزها وتتلهف إلى المعرفة حيث وجدتها، فلم تتردد في الانتفاع بتراث اليونان إلى أبعد حد،