فأثرت أيما إثراء بما أخذت عن اليونان من المواضيع والأشكال الأدبية، ومد الأدب اليوناني أمامها آفاق التفكير الواسعة وآماد المثل العليا وصور الجمال المختلفة، ووجدت في تاريخ اليونان وأدبهم وأساطيرهم ومنتجات فنونهم من صور وتماثيل وآثار منادح للكتابة والدرس والنظم، ومنابع للوحي لا تنضب.
فلا غرو أن طفرت تلك الآداب الغربية التي لم تكد في عهد النهضة تكون شيئاً مذكوراً، والتي كانت لغاتها ذاتها ما تزال في طور التكوين، فإذا هي بعد قرون ثلاثة أو أربعة تسبق الأدب العربي وهو أعرق منها محتداً وتفوقه اتساع آفاق وتعدد مواضيع، لأن الأدب العربي الذي م يكد يستفيد بأدب أمة أخرى ظل في مكانه جامدا يكرر نفسه ويعيد على نفسه الأبواب عينها التي جال فيها المتقدمون من فخر ورثاء ومدح وهجاء، حتى إذاكان العصر الحديث إذاهو يقف من الآداب الغربية موقف التتلمذ والتلقن.
ان تمكن ملكة البيان من العرب - مما جعلهم لا يدينون إلا لنبي يأتيهم بكتاب معجز، وجعل خلفاءهم يتخذون وزراءهم من أئمة البيان - واعتدادهم بأدبهم واستغراق مجهودهم الفني فيه وحده، هذا كله في مجموعة كان عاملا شامل الأثر بعيده في تاريخهم وأدبهم، ولقد كان أثره فيما يتعلق بالتراث اليوناني بليغ الضرر، فخسر العرب خسارة كبيرة بإغفال الأدب اليوناني الحي على توالي العصور، الشديد الإيحاء القوي التأثير، الذي كان بلا ريب أغنى من أدبهم. ولو لقح به الأدب العربي لاتسعت جوانبه وانصرف عن تلك الأغراض العلمية التي احتبس فيها إلى عوالم الفن الخالص وتغير مجرى تاريخه وأفاد العرب بذلك أضعاف ما أفادتهم دراسة الفلسفة اليونانية.
ونحن اليوم بدراسة الآداب الغربية والأخذ عنها بطريق غير مباشرة عن تلك الثقافة اليونانية، وندخل في أدبنا ذلك العنصر اليوناني الذي لابد منه لكل أدب يريد له مكاناً بين الآداب العالية، وإذا وقف شاعرنا العصري أمام الأهرام فلم ينصرف ذهنه إلى بطش الدهر بالجبارين الذين أعلوها ولم يتنبأ لها باللحاق بهم، بل حيا فيها الفن وعظم قدرة الإنسان وقال:
أهرامهم تلك حي الفن متخذاً ... من الصخور بروجا فوق كيوان
لم يأخذ الليل منها والنهار سوى ... ما يأخذ النمل من أركان ثهلان