كنت مشرد اللب ساعتذاك، أنظر إلى أمي وأبي بعين الولد البار، وأنظر إلى فتاة كانت بجانبهما بعين قلبي، لم تكن الفتاة غريبة عني، بل كانت من أقاربي الأبعدين، وقد جاءت من (كفر شيسما) خصيصاً لوداعي، كانت معرفتي بها بسيطة، ومحدودة، أما في ذلك الموقف، موقف الوداع، فقد انفتحت لها جوارحي فأحسست فجأة بأن كل ذرة من كياني الذاتي تدعوني إليها، وأنها هي هي المتممة لتكامل وجودي في الحياة، فوثبت على غير وعي وثبة قلب محفوز، وأخذت أدفع الناس حتى شققت طريقي إلى سلم الباخرة، فهرولت نحو والدي، فأخذت يد الفتاة بيدي اليمنى ويد أمي اليسرى، وقلت لوالدي هاك (أنيسة) خطيبتي بل زوجتي بالروح، احتفظا يا والدي بها. لن يطول غيابي. سأقتحم البحر، وأشق المنجم حتى أصل إلى الذهب أقتلعه من أصوله أقدمه عربوناً للزواج من حبيبتي (أنيسة) هذه. وقبلت جبينها قبلة خاطفة فيها كل الدوافع والبواعث والحوافز.
كان يتخلل حديثنا فترات ينقطع فيها الحديث لإشعاله لفافة أو مسح جبين للاستذكار، أو مشاهدة دارعة كقلعة تترنح، أو غواصة تطفو وتغوص، أو أسراب من طائرات تهبط وترتفع واحدة منها للاستكشاف.
قال محدثي: غمر البحر معالم الأرض، ولم تعد العين ترى ألا قبة مكورة فوق وجه الماء، وكنت أرى بعين البصيرة وجه (أنيسة) الصبوح، وعينيها الصافيتين الناعستين تدفعاني دفعاً إلى الأرض الجديدة التي سأنبش تربته كالخلد وأقضم خيراتها كالجراد
بدت منابت الأمل في نفسي تمتد سوقها، وتبرز براعمها، وتورق وتزهر، واخذ خيال السعادة يحوطني بشملة من فرح تريني وجه المستقبل نظراً بساماً، فوددت لو أستحث الباخرة أن تثب فوق اليم فتجتاز المحيط ساخرة من أنوائه وعواصفه فأصل طفرة إلى حلبة الجهاد والعمل. ثم صمت هنيهة وقال:
لقني مواطني في البرازيل بضع كلمات من لغة البلاد، وبعد أيام معدودات ملأت أكياسي بأنواع من جوارب ومناديل وأدوات زينة أعطانيها تاجر سوري، أطوف بها شوارع عاصمة البرازيل أقرع أبواب المنازل أعرض على رباتها بضاعتي. كنت أحس الشفقة بي والضحك من رطانتي واغتفار جرأتي وفضولي.
كان تقبل البرازيليين إياي على هذا النحو يحز في كبريائي فانتقلت إلى الضاحية. جبت