فمن غلبت فيه سليقة المصلح على سليقة الفنان ظهرت الدعوة في كتابته عامداً أو غير عامد، ومن غلبت فيه سليقة الفنان على سليقة المصلح لم يفده إكراهه على الدعوة، إلا أن يقتسر طبعه على غير ما يحسنه ويجيد فيه، ولن تخلو الدنيا من أصحاب السليقتين.
وقد أسلفنا في صدر هذه الكلمة أن درجة المحافظة - في كل قطر من الأقطار العربية إنما تقاس بمقياس التراث الإسلامي فيه؛ فحيثما تمكن هذا التراث في جوار الأماكن المقدسة أو المساجد الكبرى أو المعاهد العلمية العريقة فهناك تزداد الأناة في تلبية الاتجاه الحديث.
ولا تصدق هذه الملاحظة على شيء صدقها على الدعوات الاجتماعية التي تمس قواعد الدين. فأن درجة النفور منها تكاد تتمشى في الترتيب بين الأقطار الإسلامية على حسب المعاهد العريقة التي فيها وحسب منزلتها في القداسة والرعاية الدينية، وذلك هو شأن الأقطار العربية في كل تجيد له علاقة بالعقيدة الإسلامية من قريب أو بعيد.
وإذا أردنا أن نوجز القول في وصف الاتجاهات الحديثة فجملة القول في وصفها، بعد هذه اللمحات عن مبناها ومعناها، أننا نعبر الآن فترة البداية في الاستقلال والثقة بالنفس. وأن هذا الاستقلال يتجلى حيناً في التحرر من القديم ويتجلى حيناً آخر في التحرر من الجديد.
فقد مضى زمان كان يكفي فيه أن يكون الشيء قديماً ليحكي بلا تصرف ولا مراجعة، ومضي بعدهُ زمن كان يكفي فيه أن يكون الشيء أوربياً أو حديثاً ليحكي بلا تصرف ولا مراجعة، فهذا الربع الثاني من القرن العشرين قد عرف أنانساً يأبون التقيد بكل قديم لأنه قديم، كما يأبون التقيد بكل جديد. ومن الناس اليوم من يوصف بالابتكار والجرأة لأنه يتمسك بقديم كان الاستمساك به وقفاً على الجامدين، ومنهم من يوصف بالجمود والمحاكاة لأنه يعجل إلى الجديد الذي يستحب على سنة التقليد. ولعل الحقيقة المقبلة هي التي يكتب لها أن نثبت قدم الاستقلال وتطلق الآراء من حجر القديم والجديد على السواء.