فإذا استقرت هذه الأسباب جميعها في قرارها بعد تبدل الحال وضحت الحقيقة في حركة التأليف ووضحت كذلك في حركة الترجمة، لأن الترجمة قد تعود إلى رجحانها بعد تدفق المؤلفات الأجنبية التي تعالج مشكلات العالم في منابتها الأولى، وقد يكون تدفق هذه المؤلفات موجباً للكتابة في موضوعاتها والتعقيب عليها دون ترجمتها
أما أغراض الأدباء من موضوعاتهم وكتاباتهم، فالربع الثاني من القرن العشرين حقيق أن يشهد فيها أنشعاباً لم يسبق إليه قط بين المدرستين الخالدين على مدى الزمان، ونعني بهما مدرسة الفن للفن، ومدرسة الفن لخدمة المصالح الاجتماعية أو المصالح السياسية
فمنذ وُجد الأدب وجد الأدباء الذين يكتفون بالتعبير لجماله وإعرابه من سرائر النفس الإنسانية، ووجد الأدباء الذين يعبرون ليرجّحوا دعوة على دعوة، أو يقنعوا الناس بمذاهب من مذاهب الإصلاح ويحركوهم إلى عمل مقصود.
ولكن الآونة التي نحن فيها تجنح بالناس إلى التفرقة الحاسمة بين المدرستين الخالدتين، لأنها ليست تفرقة بين رهطين من الأدباء وكفى، ولكنها تفرقة بين حكومية وطبقات اجتماعية ودعوات فلسفية لا تزال عرضة للمناقشة في صدد المعيشة اليومية وصدد التفكير والدراسة. إذ كان من قواعد الاشتراكية المتطرفة أن الطبقة الاجتماعية الغالبة على الحكم في حل من تسخير الآداب والفنون والعقائد لخدمة مصالحها وتمثيل عاداتها وآمالها. فإذا أضيف القائلون بهذا الرأي لأنهم يدينون بالاشتراكية إلى القائلين به لأنهم ينكرون مذهب الفن للفن عامة، فقد أصبحت الآونة الحاضرة في الحقيقة آونة النظر في المدرستين الخالدتين على وجه من الوجوه.
وقد ظهر في اللغة العربية بعض القصص، والدراسات التي تتناول المسائل الاجتماعية، وتصور الغني والفقير، والرجل والمرأة في صورة تستحث النفوس إلى طلب الإصلاح والتغيير. ولا تزال تظهر فيها قصص ودراسات تصور الحالة في صورتها الفنية وتترك العمل المترتب على ظهورها في هذه الصورة لشعور القراء. ولكننا نعتقد أن مصير الخلاف بين المدرستين، كمصير الخلاف بين دعاة الفصحى ودعاة العامية، فلا تنفرد مدرسة الفن للفن بالميدان، ولا تنفرد به مدرسة الفن لخدمة المقاصد الاجتماعية، لأن أنماط الكتابة والتفكير لا تفرض بالإملاء والإيحاء، وإنما تفرضها على الأديب سليقته ومزاجه.