مواضعه وقالوا إن الله ثالث ثلاثة وأشركوا مع الإله الطبيعي إلهين آخرين مشخصين هما عيسى ومريم؛ ومهاجمته هذه كانت لأجل أن يرفع الإنسان من عبادة الشخص المحدد المتغير الفاني إلى ما وراء ذلك مما له الدوام والاستقرار. وإذا كان له الدوام والاستقرار كان حتماً له الكمال لأنه يعلو عندئذ الأحداث وتقلباتها، أو لأنه لا يخضع لها كما يخضع المتغير. والخضوع في ذاته نقص، والاستقلال والاستغناء في ذاته كمال.
وإذا كان المعبود كاملاُ، وإذا كان دائم الكمال، شرف الإنسان بالخضوع له، لأنه أعلى قيمة منه. وبقيت كذلك وجهته في الحياة ثابتة لا نبدل فيها وهي وجهة الكمال المطلق
وكفاح الإسلام ضد عبادة الأشخاص أو الذوات المشخصة قصد به إذا إشعار الإنسان بكرامته وبقيمة ذاتية له لأنه جعل خضوعه فحسب لمميَّز عنه وعما في الكون كله، كما قصد به توجيهه في حياته إلى هدف باق هو الكمال الذي لا يتغير أو الخير الذي لا يتبدل. والصراع إذا بين الإسلام والوثنية أيضاً صراع من أجل تقديس المبادئ دون الأشخاص. إذ ليست المبادئ إلا المعاني العامة، ولعمومها هي باقية في كل مكان وزمان لا تخضع للتغير والتقلب.
وفي طي مكافحة الإسلام للوثنية مكافحته انقياد الفرد لفرد آخر لذاته دون رعاية لما يحمله من مبادئ أو فكر مثالية. وكان انقياد المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم لا لأنه محمد بن عبد الله، بل لأنه رسول الله، أي لما يحمله من رسالة ربه وليس لذاته كفرد من الأفراد (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله). وكذلك كان انقياد المؤمنين حقاً لرسلهم. ولهذا لم يكن من المنطق في شيء أن يدعو الرسول لعبادة نفسه من دون الله أو مع الله، لأن الدعاء لعبادة نفسه على العموم يتناقض مع دعوى الرسالة التي تنطوي على أن قيمة الرسول في صلته بالله. (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون. ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون)
وما عاب الإسلام على أهل الكتاب من المسيحيين تأليه عيسى وإشراكهم له مع الله في معنى الألوهية إلا لأن في تأليه عيسى معنى التبعية للشخص دون المبدأ. والذي دعاهم إليه ليس إلا التجاوز بالعبادة من الشخص إلى ما هو أسمى منه وهو الباقي الذي لا يتغير ولا