الموحشة مأنوسة مألوفة؛ وإذا بك تجد الحسَّ بينك وبين العربي مشتركاً، وتجد التجارب بينكما متبادلاً. فتقف أمام البيت من الأبيات وأنت تكاد تحس فيه قلب الشاعر أو همس الخاطر. . .
والمؤلف نفسه متأثرة بالأسلوب العربي الرصين؛ ويخيل إلى أنه عنده حاسة يتخير بها اللفظة الملائمة مهما كانت غريبة؛ ولعله واثق إن إعادة استعمالها قد يضفي عليها الحياة من جديد. ولعله ناجح فيما هو بسبيله من ذلك. فقد وصف في صفحة ٥٨ مناظر الصيد والطرد بأنها (مرعبلة) ثم عاد في ص٦٣ فشرحها في بضعة أسطر شرحاً يجذبك إلى استعمالها ويحملك على الأخذ بها.
الدكتور صبري محب للشعر الجاهلي، ولا نغالي إذا قلنا إن حبه إياه قد جرى مجرى الدم في مفاصله. وفي كل صفحة من الكتاب برهان ذلك ومصداقه. ولكنه أعلن ذلك الحب وجاهر به مصرحاً في ص٧١ حيث يقول (وإني أحب الشعر الجاهلي وأحب أسلوب الجاهليين). ولو أنا وجدنا بيننا من يحب الأسلوب الجاهلي كما أحبه صبري ماشكونا الآن من (ميوعة) بعض الكتاب والشعراء المعاصرين الذين لا يبالون بلفظ ولا يحفلون بأسلوب. ولكن همهم من القول أن يرصوا الكلام رصاً. من غير أن تكون لتلك الألفاظ التي يستعملونها دلالة خاصة - تلك الدلالة التي تجعل الأديب المعرق يؤثر لفظاً على لفظ أو أسلوباً على أسلوب.
وفي الشعر الجاهلي لوحات فنية كثيرة لم يغفلها المؤلف، ولكنه أبرزها في خير أُطرها غير مغفل جمال اللوحة نفسها وهو معنا ناقد غني بصير. ولا تقوية من حين إلى حين الموازنة بين صورة ناطقة لشاعر وصورة صامتة لمصور. فصورة (طرفة) التي يقولب فيها:
وجالت عذارى الحي شتى كأنها ... توالى صوار والأسنة ترعف
تذكِّره بصورة لرافائيل الإيطالي كانت موضع نقد من النقادة الفرنسي ص١١٠
وقولة حميد الراجز في صفة القلب عند وشك الفراق تذكره ببيت للشاعر (فرلين) ص١١١. ولوحات الشعر الجاهلي الحيوانية تذكره بالمثَّال المصور الحيواني (باري) ص٥٧.