قلت في نفسي، والسرور يملؤها: قد احتفلنا من قبل بذكرى أبي الطيب المتنبي فتجاوبت بلاد العرب بتمجيد الشاعر الكبير ما بين هضبة إيران وبحر الظلمات، وكتبت مقالات وألفت كتب تناولت سيرته وأديه. وتبين من يحتاج إلى بيان أن في هذه الأقطار الواسعة أمة واحدة، تنطلق بلسان واحد، وتروي عن تاريخ واحد، وتتأهب لتأليف تاريخ هو على ضخامته واختلاف فصوله، كتاب واحد.
ثم يدعى إلى الاحتفال بذكرى المعري والحرب دائرة، والخطوب محيطة، والأسباب بين البلاد متقطعة فتصيب الدعوة هوى من أمة نزاعة إلى إحياء مجدها وحفظ تاريخها القديم وتسطير تاريخ جديد أعظم وأروع. وكانت دمشق مكان الجمعين وما أجمل أن يحيا أدب العرب، ويذكر مجد العرب في مدينة العرب: دمشق الخالدة.
وقد اجتمعت الوفود على ذكر الشاعر الفيلسوف الحزين المتشائم، وهي فرحة مستبشرة، ترى تباشير الصباح في أعقاب الظلام، وتكاد ترى أشعة الشمس من وراء الأفق، ويعرف بعضهم في وجوه بعض بسمة الأمل ونضرة الرجاء، وقوة العزم وأهبة الجهاد الذي لا ينتهي دون الظفر.
احتفلنا بذكرى أبى العلاء يومين في دمشق تلقي المحاضرات في العشى، وللزيارات والمآدب سائر النهار وزلف من الليل.
ويوم الأربعاء عاشر شوال والساعة تسع ونصف من الصباح فصلت الوفود ومن معها من أدباء الشام وعلمائه تسير صوب الشمال. فتوالت السيارات على الطريق تخترق الغوطة الفيحاء الغناء وليست الغوطة إحدى جنات الدنيا، في حاجة إلى تعريف أو وصف، وامتد بنا السير فيها زهاء نصف ساعة. ومررنا بقرية حَرَسْنا من قراها فذكرنا الإمام محمد بن الحسن الشبباني الفقيه صاحب الإمام أبي حنيفة. ويقال إنه ولد بهذه القرية. وقال ياقوت في معجم البلدان في صفتها:(قرية كبيرة عامرة في وسط بساتين دمشق، على طريق حمص بينها وبين دمشق أكثر من فرسخ.) وغدا ياقوت جماعة من العلماء المنسوبين إليها. ثم قال:(وحَرْسنا المنظرة من قرى دمشق أيضاً بالغوطة في شرقها). وجُزنا الغوطة إلى أرض واسعة فيها كروم ومررنا بالثنايا. ويقال إن هناك ثَنيّة العُقاب التي ركز عليها خالد بن الوليد رضي الله عنه راية العقاب حينما اجتاز بادية الشام فجيء الروم من حيث أمنوا.