للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وبعد قليل رأينا طريق بغداد يتفرع من طريقنا. وحسب هذا الطريق يمنا وفخراً أنه يصل بين دمشق وبغداد. وقد سعدت بقطعه عشر مرات فلم توحشني قفاره. ولم يعنيني طوله؛ بل أنست فيه بذكريات عظام، وتحدثت فيه إلى أمان جسام.

وبعد قليل رأينا طريق تدمر يتشعب إلى يمين طريقنا، ثم دخلنا أرضاً جبلية يسير الطريق فيها على سفوح الآكام وحفاف الأودية، ثم انفرجت الجبال واتسع السهل والساعة إحدى عشرة وبلغنا البنك بعد ربع ساعة، وهي في سهل واسع خصب، تلوح في نواحيه قرة قليلة متباعدة وضياع وأشجار. والعمران والخصب ظاهران في البلدة وحولها. وكذلك كانت في القرن السابع. قال ياقوت: (قرية مليحة بذات الذخائر بين حمص ودمشق فيها عجيبة باردة في الصيف صافية طيبة عذبة يقولون مخرجها من يبرور). ويبرور هذه بين حمص وبعلبك وهي إلى الجنوب الغربي من البنك. والبنك مركز قضاء يسمى باسمها. ويستخرج في نواحيها عرق السوس. وقد نزلنا على مجزى هذه العين، في بستان صغير فيه ناعورة. فاسترحنا واستروحنا إلى البستان والماء والناعورة واختفى بنا موظفو البلدة ونائبها وأعيانها. واستأنفنا السير بعد قليل نؤم حمص فمررنا بدير عطية ورأينا على بعد إلى يسارنا قرية القارة. وهي قرية قديمة معروفة. قال صاحب معجم البلدان: (قرية كبيرة على قارعة الطريق. وهي المنزل الأول من حمص للقاصد إلى دمشق. وكانت آخر حدود حمص وما عداها من أعمال دمشق. وهي على رأس قارة وبها عيون جارية يزرعون عليها) والظاهر أن الأرض هناك كثيرة العيون وبهذه العيون تحيا الأرض هناك وتخصب وبنت الزرع والشجر وينشأ العمران. وكانت معنا الأستاذ أديب التقى فقال: العامة يقولون: بين القارة والبنك بنات الملوك تبكي؛ قلت: مم تبكي؟ قال والعهدة عليه: من شدة البرد.

أخذ السهل يتسع حتى اختفت الجبال التي كانت تلوح بعيدة على يمين الطريق وابتعدت الجبال التي على يساره، وأشير إلى سواد بعيد يبدو فيه الشجر والخضرة فقيل: انه منبع العاصي، وشرعنا نرى آثار الخصب والنضرة في سقي العاصي. والعاصي أكبر أنهار سوريا ينبع شمالي بعلبك ويجري صوب الشمال والغرب حتى حمص ويمر بمدينة حماة. ثم يتجه صوب الشمال والغرب حتى يفيض في البحر. وكم يفيض مجراه الخصب والبركة وينبت الزرع والجنات، وينضر البساتين والمنتزهات ويدير النواعير الكبيرة الرائعة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>