ما كان لي فيها جناح بعوضة ... والله ألبسهم جناح تفضل
وقد ذكر صالحاً في مواضع أخرى من لزومياته، وقال:
ما لمت في أفعاله صالحاً ... بل خلته أحسن مني ضميره
وما زال أهل المعرة يعظمون شيخهم ب وفاته ويسمّونه (سيدنا أبا العلاء) فهم اليوم يعتزون ببلدهم ويفخرون بشيخهم وقد جاءت وفود الأقطار القريبة والبعيدة تذكره وتعظمه.
سارت الوفود بين الجموع الحاشدة ومعهم أعيان البلد، وزعيمها حكمت بك الحراكي. وقد رأيته - وقد ضغط الناسَ الزحامُ إلى طريق الوفود - يُسرع مشفقاً على ضيوفه يرد الناس بأمره وذراعيه. مبالغة في الاحتياط لضيوفه. ونحن في جذل وفي هيبة مما نرى ونسمع. أبصارنا تتخلل هذا الزحام، وتستشرف إلى الضريح المقصود وقلوبنا بين ذكرى الشيخ، وبين حفاوة أهل المعرة به وبوفوده. اقترب مني حينئذ الأستاذ الأديب خليل مردم بك وقد أعجبه احتشاد المعّريّين، وفرح الولدان ومرحهم، وراعه هذا الموكب السائر لتحية الفيلسوف الحزين فقال: هذا مهرجان المعري) قلت: صدقت، إن هذا لهو مهرجان المعري.
وانتهينا إلى بناء جديد ولجنا أحد أبوابه إلى ساحة فيها زرع وزهر. فملنا ذات اليمين والجنوب إلى القبر الرهيب، يجثم عليه هذا الجندل العتيق، وكنا رأيناه من قبل وقرأنا عليه اسم المقبور بخط كوفّي، وقال أحد أصحابي حينذاك: إن له هيبة الأسد الرابض. وفوق القبر عقد من الحجر لا تكلف فيه ولا تأنق، فهو يساير زهد أبى العلاء لو رضي زهدهُ أن يشاد على قبره بناء.
ألم يقل في لزومياته:
فدًى لنفسك نفسي آِونى جدثا ... من الخَفيّات لا قَصرا ولا فَدَنا
قد تمنى الرجل ألا يزار قبره ولا يعرف:
ولي منزل في الثرى ما يُزار ... ولو رامه زائر ما عرف
فهل يرضيه أن يكون قبره معروفاً مَزورا تحج إليه الوفود؟
وقد ود أن يكون جدثه في معزل عن أجداث الناس كما بعد هو في حياته عنهم:
يا جدثي حسبك من رتبة ... أنك من أجداثهم معزلا
وقد دفن في معزل من الناس إلا بعض قرابة، ولكني احسبه لا يكفيه هذا الاعتزال وهو في