ولست أنسى مسيرنا بين صفوف متراصة من أهل البلد، ودور ازدحمت منافذها وشرفاتها بالمشرفين على مهرجان أبى العلاء، وقد مال بالشمس الأصيل فغضَّت أشعتها من أبصارنا كأنما يغض منها جلال الشيخ الفيلسوف
ذكرت حينئذ مكانة الشيخ من أهل بلده، إذ كان حدباً عليهم براً بهم، إذ كانوا يفزعون إليه في الشدائد، وتمثلت صالح بن مرداس ينزل بساحتهم يريد الإيقاع بهم، فيفزعون إلى شيخهم وقد لزم محبسه وقطع بينه وبين الناس العلائق لو استطاع، ويستنجدونه ليدفع عنهم بأس الأمير الكلابي، ويستشفعون به ليطلق صالح رجالهم، وكان قد اعتقل من أعيانهم سبعين، وأبو العلاء يرم بالفتن المحيطة، آنس يخلوته، أو قلق بها، يصف الناس، إثمهم ورياءهم وخداعهم، وجنايتهم على أنفسهم وعلى الحيوان يبغي الأمن في داره الصغيرة، ولا يأمن أن تلج عليه آثام الناس، وقد اعتزلهم جهده، وود لو ينقذه الموت من صحبتهم وجوارهم. ولكن أبا العلاء الرحيم لا يملك أن يرد اللاجئين إليه، أو يقعد عن إغاثتهم وهو قادر، فيخرج أبو العلاء كارها إلى الأمير صالح فيقول:
الأمير أطال الله بقاءه كالنهار الماتع قاظ هجيره وطاب براده، والسيف القاطع لان مسه وخشن حدّاه. خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) فيقول صالح وقد أخذه مرأى الشيخ الذي سمع بمكانته، وعرف له قدره، قد وهبتهم لك أيها الشيخ. ورجع الشيخ إلى داره وهو فرح بما يسر الله على يده من الفرج، مغموم لما اضطره إلى الخروج من معتزله والمثول بين يدي أمير.
قال:
تغيبت في منزلي برهة ... ستير العيوب فقيد الحسد
فلما مضى العمر إلا الأقل ... وُحمّ لروحي فراق الجسد
بعثت شفيعاً إلى صالح ... وذاك من القوم رأي فسد
فيسمع مني سجع الحمام ... وأسمع منه زئير الأسد
فلا يعجبنّي هذا النفاق ... فكم نفّقت محنة ما كسد
ويقول:
نجّىِ المعاشر من براثن صالح ... رب يفرّج كل أمر معضل