للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وبقي الرشيد عند أخته يستزيدها من الأصوات فتغنيه هي وجواريها حتى أذّن المؤذن يدعو الناس إلى ذكر الله وإلى الصلاة فلبى الرشيد داعي الله ونهضت أخته تودعه يحف بها الجواري والبشر طافح على وجه الخليفة والسرور قد ملأ قلبه.

وكانت عليه كثيراً ما تباغت أمير المؤمنين في الأزياء المبتكرة والألحان التي تضعها أو الشعر الذي تجود به قريحتها

- وفي أحد الأيام كتبت إليه تستزيره كعادتها - وما كاد يتوسط حديقة القصر حتى رأى أخته تستقبله هي وجواريها بأزياء جديدة مبتكرة وهن يرددن صوتاً من نظم أميرتهم وتلحينها:

تفديك أختك قد حُبيت بنعم ... ة لسنا نعد لها الزمان عديلا

إلا الخلود وذاك قربك سيدي ... لا زال قربك والبقاء طويلا

وحمدت ربي في إجابة دعوتي ... ورأيت حمدي عند ذاك قليلا

وكان كثيراً ما يستصحبها معه في سفراته ومتزهاته، لتشاركه في أفراحه وتخفف عنه عناء السفر في أنغامها وأشعارها. خرج مرة إلى الرقة البلدة الجميلة التي كان الرشيد كثيراً ما يرتادها لجمالها وطيب هوائها وكثرة أزهارها وأثمارها، فأحب أن تشاركه أخته بهذا الجمال الفتان فكتب إلى خال المهدي يأمره أن يصحبها معه إليه. وفي طريقها استيقظت صباح يوم على أصوات النواعير. فصغت إلى أنينها يتردد في ذلك الفضاء الواسع يشارك كل مفؤود ويسلي كل محزون ويخفف أتعاب البائس، ويحرك أشجان الهائم ويذكر الألف بألفه والحبيب بحبيبه، والغريب بوطنه، ويشكو إلى الله ظلم البشر - ولم تكن علية قد سمعت هذا الصوت السحري الجميل فحرك أشجانها وهيج قلبها، وذكرها ببغداد وما فيها، ففاض الشعر من قلبها واندفعت تغني على هذا التوقيع الطبيعي:

اشرب وغن على صوت النواعير ... ما كنت أعرفها لولا ابن منصور

لولا الرجاء لمن أملت رؤَيته ... ما جزت بغداد في خوف وتقدير

وصلت الرقة بسلامة وشاركت أخاها الأنس والطرب ثم رجعت إلى دار السلام. ولما سافر الرشيد إلى الري أمر علية أن ترافقه فوافقته كرهاً، ولم يطلب لها الخروج من قصرها جنة الدنيا ونعيمها إلى بلاد لا تعرفها وأناس لا تألفهم، ولما وصل الموكب المرج جلست علية

<<  <  ج:
ص:  >  >>