للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فطرب الرشيد غاية الطرب وتقدم إلى زبيدة وأخذ بيدها واعتذر منها، ونادى يا مسرور لا تبقين في بيت المال درهما إلا نثرته على الجواري. فيقال إنه نثر عليهن ستة ملايين درهم ولم يشاهد الرشيد في يوم مسروراً كسروره في هذا اليوم. عادت المياه إلى مجاريها وكفى الله زبيدة داء الضرائر بفضل عُلية. فسبحان محول القلوب!!.

قلما تصفو الدنيا الغدارة لأحد فهي لا تلبث أن تبدل الصفو بالكدر، والسرور بالقهر، والفرح بالحزن، والهناء بالعزاء، تضحك اليوم وتبكي غداً، وتعطي هذا وتحرم ذاك.

وبينما عُلية في شرف قصرها، تطل على القاصدين لدار الخلافة تترقب عودة أخيها الرشيد من (طوس) رأت حركة منكرة في دار الخلد، واضطرابا في القصر بل في بغداد أجمع، فقد اجتمع الأمراء والولاة والقضاة وأرباب الحكم على اختلاف طبقاتهم بثياب العزاء فتفرست بهم فإذا بوجوههم عانية، وقلوبهم خانقة، وعيونهم دامعة، وألسنتهم خرس. لا تقدر أن تعبر عن هول المصيبة التي حلت بأمير المؤمنين، والرزء الذي أصاب العرب والمسلمين: - أن أمير المؤمنين الرشيد قد قضى نحبه في طوس - اسودت الدنيا بعين عُلية وضاق بها القصر الواسع فقد فجعت بأخيها أمير المؤمنين الرشيد أعظم خليفة أظهر للعالم عظمة العرب والإسلام، وأنفق في سبيل العلم والعمران ما يعجز عنه غيره - وكانت عاقبة هذا العاهل الذي خضعت له ملوك الأرض، ودانت له الأمم، وانقادت إليه الشعوب صاغرة، أن أدلى في لحده وأهيل عليه التراب بعيداً عن عاصمة ملكه. فقد ضن عليه الزمن أن يدفن في دار السلام، المدينة التي جعلها كعبة العلم والأدب والفن، بل عز على بغداد أن ترى الرشيد ميتاً يقبر في لحودها بعد أن زانها حياً وجعلها سيدة البلاد.

رفعت المعازف. وبحت الحناجر وساد الهدوء والخشوع في قصر عُلية فلا يسمع إلا صوت المؤذن وقراءة القرآن، ولا ترى عُلية إلا في محرابها تصلي، أو بكتابها تقرأ، أو تندب أخاها، أو تنتقل في خمائل قصرها تطلب العزلة لتخفف عنها أحزانها.

عز على الأمين أن يرى أميرة الشعر والطرب وهزار بني العباس على هذه الحالة المؤلمة فكان يتردد إلى زيارتها كثيراً ويدعوها إلى قصره. والحزن لا يجد قراراً في قلب شب على الشعر والأدب والعزف والطرب فلم تلبث أن وانقت الأمين في لهوه ومرحه.

عُلية اليوم قد ذهب نور شبابها، واشتعل الشيب في رأسها، وتغيرت نبرات صوتها، ولكن

<<  <  ج:
ص:  >  >>