وضعته من الألحان يزينْها عزف إبراهيم وأختيه، مزمار يعقوب ترديد الجواري، كما أنها كانت في أوقات فراغها تستدعي أخاها تطارحه الألحان أو تأمر الجواري أن يعرضن أمامها ما أخذنه عنه. وكان الرشيد إذا نظم أبياتاً يبعث به إلى بلبل بني العباس فتصوغ لها لحناً وتغنيه بها. أرسل إليها مرة هذين البيتين من نظمه:
يا ربة المنزل بالفرك ... وربة السلطان والملك
تحرجي بالله من قتلنا ... لسنا من الديلم والترك
فصاغت فيهما لحناً جميلا. ولما حضر عندها الرشيد أخذت تغنيه هي وإبراهيم أخوها يضرب بالعود ويعقوب يزمر والجواري يرددن علمت عُلية يوماً أن الرشيد قد غضب عليها بوشاية حاسد وهي من أعلم الناس بمعالجته. فنظمت ثلاثة أبيات وعملت لحناً فيها وألقتها على جواري الرشيد وأمرتهن أن يغنين بها في أول مجلس يجلسه فغنين:
لو كان يمنع حسن العقل صاحبه ... من أن يكون له ذنب إلى أحد
كانت عُلية أربى الناس كلهم ... من أن تكافا بسوء آخر الأبد
ما أعجب الشيء ترجوه فتحرمه ... قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي
فطرب الرشيد طرباً شديداُ، وسأل الجواري عن القصة فأخبرنه بها، فبعث إليها فحضرت فقبل رأسها وسألها أن تغنيه هي، فأعادته عليه فبكى وقال لها (لا جرم أني لا أغضب أبداً عليك ما عشت)، وبلغها يوماً أن الرشيد وأخاه منصور يتحدثان في جنة دار الخلد، فاستدعت جاريتها (خلوب) المغنية، وأمرتها أن تذهب إلى الرشيد وتغنيه هذا الصوت، وأن يضرب على غنائها بعود:
حياكما الله خليليَّ ... إن ميْتاً كنت وإن حيا
إن قلتما خيراً، فخير لكم ... أو قلتما غيَّا، فلا غيَّا
أما تأثير غنائها فكان عظيما، ذلك أنها تمتاز برخامة صوتها، وحسن توقيعها، وتفننها وإبداعها في كل ما تضع من الأصوات.
دخل يوماً (إسماعيل بن الهادي) على (المأمون) فسمع غناءً أذهله، فقال له المأمون: مالك؟ قال: قد سمعت ما أذهلني، وكنت أكذب أن أرغن الروم يقتل طرباً، وقد صدقت الآن بذلك. فقال له المأمون: ألا تدري من هذا؟ قال: لا والله. قال: (هذه عمتك علية تلقي على عمك