للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وما كان اعتزال البحتري في منبج إلا شراً أجاءه إليه ما هو شر منه. ذلك أنه كان ودع أرغد عيشه وأطيب أيام حياته بتوديع عهد المتوكل الذي شهد بعينيه مصرعه الرهيب. .

وكانت فترة (المعتز) في حياة البحتري أشبه شيء بخفقة المصباح الأخيرة حين يصارع الظلمات ولما تخمد منه الأنفاس.

ولعل أشد الأشياء على نفسه ما كان يعالجه من جفاف الحياة في منبج بعد أن نعم بالمقام الطيب سنين متطاولة في بغداد وسر من رأى؛ ثم جلوسه إلى حاكمها مجلس (الرعية) من الراعي، بعد أن كان لا يرى إلا جليس خليفة أو وزير أو أمير خطير. . .

وكانت أيام المتوكل ونجيه الفتح - وأمثالهما ممن بسطوا على البحتري ظلال نعمائهم - تبدو له كأحلام سعيدة تمتع بها حينا، ثم انقشعت عن حسرة في نفسه وشجى. وإنه ليعبر عن شعوره بذلك أصدق التعبير حين يقول ضمن قصيدة بعث بها إلى أبي الصقر -

مضى جعفر والفتح بين مرمَّل ... وبين صبيغ بالدماء مضرَّج

أأطلب أنصاراً على الدهر بعدما ... ثوى منهما في التراب أوسي وخزرجي؟

أولئك ساداتي الذين برأيهم ... حلبت أفاويق الربيع المثجج

مضوا أمماً قصداً وخلفت بعدهم ... أخاطب بالتأمير وإلى (منبج)

وتوفي البحتري في منبج، بداء السكتة، عام ٢٨٤هـ.

وكان قد أربى من عمره على الثمانين.

(قوص)

محمود عزت عرفه

<<  <  ج:
ص:  >  >>