للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وفي ذلك يقول أبو عبادة:

تجانف بَي نهجُ الشآم وطاعَ لي ... عنانٌ إلي أكناف منبج مطلقُ

أسرُّ صديقا أو أسوء ملاحياً ... وأنشر آلاءً بطولك تنطق

حملتَ على عشرٍ من البْردِ مركبي ... عجالاً عليهن الشكيم المحلق

وأكثرت زادي من بدورٍ تتابعت ... لجُودك فيهن اللجيْنُ المطرق

ومنتسبانِ للوجيه ولاحقٍ ... كميتٌ يسر الناظرين وأبلق

ومن خلع فازتْ بلبسك فاغتدي ... لها أرج من طيب عَرفك يعبق

عليها رداءٌ من حمائل مرهفٍ ... صقيل يزلُّ الطرف عنه فينزلق

وبوفاة أبى عبد الله المعتز عام ٢٥٥هـ أفل نجم البحتري من سماء الخلافة في سر من رأى. إذ لم يكن موضعه لدى المهتدي أو المعتمد - وقد خلفا المعتز على التتابع - بالموضع الذي يرضي طموحه، أو يكافئ سابق منزلته لدى المتوكل وابنه. وكان الذي جرى من الأحداث على عهد المتوكل والمنتصر ثم المستعين والمعتز قد خلف في نفس الشاعر أثراً من اليأس عميقا، وجعله قليل الثقة بالناس وبالحياة. . يقول الشعر في مناسباته لأنه من واجبه أن يقوله لا لأنه متأثر بما يدور حوله، وبدت عليه في أخريات أيامه نزعة قوية إلى الانزواء في بلدته يراقب منها تيار الحوادث في صمت واعتبار. استمع إليه يخاطب أبا الصقر إسماعيل ابن بلبل - الذي وزر للمعتمد بين عامي ٢٧٢ و ٢٧٨هـ - فيقول:

بقيت، فكائن جئت بادئَ نعمة ... يقلُّ السحاب أن يجيء رسيلها

وأعطيتَ طلاَّب النوافل سُؤْلهم ... فمن أين لا تعطي القصائد سولها؟

ووليت عمال السواد، فولني ... قرارة بيتي مدة لن أطيلها!

. . وهكذا لا يتشهّى البحتري من جاه الولايات الذي يسبغه الوزير على خلصائه؛ إلا أن يدعه يلوذ بقرارة بيته، متجانفاً بنفسه عن مزالق السياسة وفتنها بعد أن طال في ذلك حبه وإيضاعه. وإنه في موضع آخر ليطلب إلى الوزير أن يعتق (رقبته) بصرفه إلى بلده.

وقد شمل امتنانك كل حي ... فهل مَنٌّ يُفك به أسيرُ؟

وأعتقت الرقاب فمر بعتقي ... إلى بلدي، وأنت به جدير!

<<  <  ج:
ص:  >  >>