للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وذلك ضمن قصيدة فاخرة مطلعها:

العيش في ليل (داريّا) إذا بردا ... والراح تمزجها بالماء من (برَدىَ)

على أن السياسة ليست شيئاً يخضع لأهواء الشعراء، فما تلَّبث المتوكل بعد استقراره بدمشق إلا ريثما يعد عدته للرجوع إلى سرَّ من را، بعد أن شغب عليه الأتراك فيها وتحركوا في طلب أرزاقهم، وكانوا قد أوجسوا خيفة من انحيازه إلى الشام، وتوقعوا أن يستعين عليهم بسلطان العرب هناك. . .

عاد المتوكل يزعم أنه استوبأ دمشق، وفي صدره مما جرى غصة؛ وانهارت آمال أبى عبادة حتى ليبدو من المفارقات الغريبة أن نراه يهيئ المتوكل بهذا الهود، ويستحسن مْاتم من إنفاذه فيقول:

لعمري لقد آب الخليفةُ جعفرٌ ... وفي كل نفس حاجة من قفولهِ

دعاه الهوى في سرَّ من رَاء فانكفا ... إليها انكفاء الليث تلقاء غيله

على أنها قد كان بُدَّل طيبُها ... ورَّحل عنها أنسُها برحيله

وإفراطُها في القبح عند خروجه ... كأفراطها في الحسن عند دخوله

وقد لبست بغدادُ أحسن زيَّها ... لإقباله، واستشرفت لعُدوُله

ويثنيه عنها شوقه ونزاعه ... إلى عرض صحن الجعفري وطوله

وقد أصبح قسارى أمل البحتري بعد هذا الحادث أن يلم بموطنه في زيارات قصيرة خاطفة، يواكبه فيها من ألطاف الخليفة ومبراته ما يرضي غروره، ويظهر لقومه منزلته وجاهه. وإنه ليخاطب المعتز في ذلك، وكان من أحظى الناس عنده، فيقول:

هل أطلعنَّ على الشآم مبجَّلاً ... في عز دولتك الجديد المونقِ؟

فأرمَّ خلة ضيعةٍ تصف اسمها ... وألمَّ ثمَّ بصبية لي دردق؟

شهران إن يسرت إذنيَ فيهما ... كفلا بألفة شمليَ المتفرق

وإن المعتز ليعرف هذا الشعور من نفس البحتري فيبره ويكرمه، ويحمله على الجرد العتاق إلى موطنه منبج، حيث يلقى هنالك أهله، ويتعرف رجال ضيعته (الضائعة) كما يقول. والخليفةُ يصحبه الطرف والهدايا تحملها عشرة من خيل البريد وفيها بدر المال وخلع الديباج، وجوادان أصيلان: كميت وأبلق وسيف صقيل في إهدائه تشريف وتنويه. .

<<  <  ج:
ص:  >  >>